الثلاثاء، 22 مايو 2018

أوزبكستان كما يراها صحفي إماراتي

طشقند 22/5/2018 أعدها للنشر أ.د. محمد البخاري:
في العمود الثامن من جريدة الاتحاد كتب ناصر الظاهري سلسة مقالات جاء فيها:


في الطريق لطشقند
تذكرت قول صديق أنه يمكن أن ينام على صخرة حينما يكون منهكاً تعباً، وتذكرت حال صديق آخر، هذا كان لا يسافر إلا مع مخدته، يقول لا يأتيني النوم إلا عليها، ولا يهنأ لي أن أضع رأسي إلا في مكان آمن أعرفه، تجده من مطار إلى آخر، وهو «يشالي» بتلك المخدة، يحملها مثلما يحمل رضيعاً، وإن وضعها في الحقيبة أخذت نصفها، أما حالي فهو بين الصديقين، مع فلسفات ناقصة في قراءة المكان، بحيث يمكن أن أنام على الطِوى، وأركب في «ركشا»، ولكن لابد من فندق عالي المستوى لكي لا يظهر الوسواس الخناس، ولا يجعلني أنام قرير العين، لأني سأبحث عن قصص لهذا الشرشف، وتلك المخدة التي ستبدو بائسة حينها، وأتحسس مرتبة السرير إذا ما كان هناك ثمة بلل أو رطوبة منسية، والغرفة إن لم تكن تلمع من النظافة، يكون إبليس قد سبقني إليها.
لكن السفر إلى المدن الموغلة في التاريخ، والتي نسيها الناس في غمرة المعاصر، وما برحت تدق بوابة الذاكرة الجماعية عند أناس مخلصين للحكايات، وسردينيا المساء، هي مدن تختلف، ولا تحب أن تتنازل، فتلزمك لأنك تحبها أن تتخلى عن متطلباتك المرفهة، ولو كان جيبك عامراً، فأحياناً لا قيمة للمال، إنه مجرد ورق مصقول، ولا يمكنه أن يجلب لك غرفة فندقية من التي تشعرك، وكأنك متقاعد جديد، تسمع هسيس القطن الأبيض الأصلي لأي تحرك أو تقلب منك، يحضر لأنفك رائحة عطر أنثوي كثوب فتاة تحبها، وتعرف كيف تخبئ لك شيئاً منه في أماكن تغفل عنها.
في الطريق إلى طشقند صبرت على ذلك الطريق المعمول بعرق الجند، وبمهارة في غير محلها، وتلك الأنفاق شبه المظلمة، والتي لا تختلف عن مناجم الفحم، وجبالها تشعرك وكأنها كلها خلقت للحروب والمناوشات، وأن سهولها كانت دوماً مركضاً للخيول التي تسابق الريح في تلك السهول والسهوب الممتدة بعد النظر، كانت الطريق من دوشنبيه المتعرج بين الجبال وعلى حوافها، والتي تظل توحي لك بقصص متخيلة عن الانحدار والانزلاق أو كتلة حجرية ظلت تتدحرج بقوة عربة النار، وتريد شيئاً يمسكها أو تدهسه، تغمض عينيك وتفتحهما على الواقع طرداً لذلك المخيال، تظل تحسب الساعات حتى مغيب الشمس، فيجبرك طول الطريق على المبيت، مثلما تجبرك مدينة الشاعر الطاجيكي العظيم «كمال خوجندي»، «خوجند»، وتقول: سأخط بالرحال متأنساً بليل وكلمات هذا الشاعر الدرويش عاشق الليل.
كان فندقاً أقرب للـ «مسافر خانه» أو الخان، ذاك الذي دلّني عليه سائق السيارة الطويل الضعيف المسمر، والذي يشبه بائع الجواري في عهود قديمة، المدخل مدخل بغال، والغرف مزينة بذوق شعبي معاند، من ذلك الذي ينتقي من كل دكان حاجة، فعجين الألوان سكت عنه وقلت: هي ليلة، ونسرح في فجرها، نمت ساعة من التعب، وإذا بتلك الألوان الصارخة تهزني من مرقدي، وتقول لي: قم، فمرة تتخيل لي الغرفة مثل علبة بسكويت بألوانها الساذجة التي تشبه بالونات عيد الميلاد، لكي تسكت الفم عن طعمها غير المستساغ، ومرات تتراءى لي كعلبة شوكولاته انجليزية «ماكنتوش» تتناثر في سقفها، كان هناك لون بالتحديد يتصالق، ويشبه ثياب امرأة مبتدئة على الطريق، تحس أنه يقبض يدك، ويهزك، ألوان تبكي من الجوع، وأخرى من الحرمان، ألوان تريد الهرب، لا تطيق حالها، كانت ليلة أشبه بحفلة تنكر، هربت منها بالمشي في ليل يعرف لونه الوحيد!
جريدة الاتحاد الإلكترونية يوم 9/5/2018م
تذكرة.. وحقيبة سفر -1-
هناك مدن تسكن قاع الذاكرة، لا أعرف من أين تسللت له؟ هل هي حكايات المساء، وسرد الجدات، أم قراءات التاريخ والولع به، أم ثمة شيء جيني يربطك بالمكان منحدراً عبر هجرات طويلة لا تعرف عنها.
من بين تلك المدن التاريخية التي تسلطت على أحلام الطفولة، وتسربت لذاكرتها الصلصالية، سمرقند وبخارى وطشقند وفرغانه، كان يمكن أن لا ترتاح إلا إذا تكحلت عيناك برؤيتها، ساعتها سيتوقف الحلم، وستقودك الدهشة الطفولية تلك التي ما لبثت تبحث عن أحلام باقية، وأخرى متبقية، وهنا لن أغوص في معاني تلك المدن، فلها وقتها، إنما سأسجل كعابر سبيل لها، ملاحظات جاءت عفو الخاطر عن مدن أوزبكستان:
- أعمدة الضغط العالي تحتلها طيور اللقلق بأعشاشها الكبيرة، وكأنها محطات استراحة للطيور المهاجرة، الغريب أن بعض الأعمدة عليه عِش واحد، بعضها ثلاثة أعشاش أو عشان، ربما أن بعض اللقالق لا يكتفي بواحدة.
- في محطات البترول على الركاب أن ينزلوا، ويترجلوا من السيارة واحداً، واحداً، ويبقى فقط السائق ليعمر سيارته بالبنزين، ومن ثم يلتقي بالركاب في آخر المحطة.
- نصف سكان طشقند إما فنانون أو رجال شرطة، في الأزمان السابقة كانت الغلبة للشرطة، أما اليوم فهي للفن والحياة.
- ما يبهر في طشقند كثرة الحدائق العامة، وترتيبها وتنسيقها، هي مدينة الحدائق بلا منازع، وهي مدينة الفن والرسم، ثمة شاعرية تلف هذه المدينة الخضراء.
- إن كنت ستخرج دونما أي إزعاج من قبل شرطة الحدود، خاصة البريّة، لا تنس أن تأخذ ورقة، مختومة من أي فندق تسكنه في أوزبكستان، وإلا عليك أن تسلك حالك، وشرطة الحدود، وخاصة البريّة يفرحون بهذا أيما فرح.
- في الطرق العامة في أي بلد إن رأيت سيارات الشرطة مختبئة تحت الأشجار، وفجأة يظهر أمامك شرطي وعداد السرعة في يده، فاعرف أنه لا يريد مخالفتك، عذره هو، ومن معه، أنهم في آخر أيام الشهر، فمشيته المتهاونة، والأكتاف المتهدل أحدها بتخاذل، لا توحي إلا أنه مرتش وفِي وضح النهار.
- الأكلة الشعبية «أوش بلوف» أكلة تاريخية في طاجيكستان وأوزبكستان، هي تشبه الرز البخاري أو المجبوس، لكن بعضها يضعون عليه من شحم الليّة، ومن لحم الخيل، وفِي طشقند شاهدتهم يعملون مراجل كبيرة، أكبر من مراجل الأعراس، بحيث يطبخون يومياً أكثر من أربعة أطنان رز.
- في أوزبكستان فلوسهم بالملايين، وعليك أن تحمل شنطة يد مثل المعلمين المعارين في أول إجازتهم الصيفية، لتضع فيها ربط فلوسهم التي تسمى «سوم»، حيث بإمكانك أن تصبح مليونيراً خلال إقامتك في أوزبكستان، لكنك مليونير بصفة عتّال.
جريدة الاتحاد الإلكترونية 11/5/2018م
تذكرة وحقيبة سفر – 2
- بخارى وسمرقند وفرغانه ونمنجان، كانت تابعة لطاجيكستان في الأصل، وسكانها من الطاجيك، وعقب الثورة البلشفية عام 1917، لعب الاتحاد السوفييتي الجديد سياسة صنع بلدان جديدة لقوميات مختلفة، فخلق أوزبكستان، مقتطعاً تلك المدن الأربع من طاجيكستان في عام 1924 وألحقت بأوزبكستان، لكنهم ظلوا على عاداتهم، ويتكلمون لغتهم الأم الطاجيكية.
- الفرح بالزواج في سمرقند مبالغ فيه، فقد تستمر أفراح العروسين شهراً، ولا يتركون مناسبة تمر إلا ويحتفلون، شعب يحب الحياة، فقد ودّعوا الحروب دون رجعة منذ أزل التاريخ، وتفرغوا للتجارة والمبادلة، والعيش بهدوء وسلام.
- قلت أجرب سيارة «لادا» الروسية القديمة، فهي مثل حمار الجبال، بعد ما أجبرت عليها حين زرت آثار قدمي النبي داوود عليه السلام كما يدعون ويعتقدون، وهو في قمة جبل، وعليك بعد أن تخضّك «اللادا» أن تركب حصاناً أو تطلع قرابة الألف وخمسمائة درجة، المهم أن سيارة «لادا» ما زالت تكد من دون أعطال، كيف تمشي، وما هو الحديد المصفّح المصنوعة منه؟ وكيف تقاوم، والناس من الحرس القديم ما زالوا يحتفظون بها، ومخلصين لها.
- من عاداتهم أن يرفعوا أيديهم بالدعاء قبل الأكل وبعده، والكثير يعتقد بزيارة القبور والأضرحة تبركاً وشفاعة.
- عند أهل سمرقند عادة، تجدهم يوم الجمعة، وخاصة كبار السن يبكرون في الذهاب إلى الجوامع لتسَنُّن، وسماع خطبة الجمعة، وفور الانتهاء من الصلاة يذهبون للمطاعم المفتوحة على الطبيعة، المظللة بالأشجار، ويفتتحون غداءهم بالسلخ من ذاك البارد من الذي تحبه قلوبهم، الغريب أن الشواب الذين تخطوا السبعين، ولحاهم البيضاء منسدلة على صدورهم حين يرفعون أكفهم بالدعاء تكون اليد مرتجفة، وحين يرفعون كأسات الشعير الباردة والمضببة من البرودة، تكون اليد غير التي كانت في الدعاء.
- الروس بعد انهيار الاتحاد السوفييتي خفت وطأة قدم الجندي الأحمر عن مناطق آسيا الوسطى، وتنفست لغاتهم ودينهم الإسلامي، كان في السابق لا أذان يرفع، والمساجد شبه خاوية، وكان السكان يدفنون القرآن، وكتب الحديث في جدران البيوت ويصلحون عليها بالحجر والإسمنت، وظلت هكذا سبعين عاماً، وحين انهار جدار برلين، ونخّ الدب الروسي أخرجوا تلك الكتب إلى النور.
- أعجب من الزمن الأول كيف كانت تصل رسائل أمير المؤمنين إلى الأمصار، مثل بخارى وسمرقند دون أن يهلك حامل الرسالة، وهو على فرسه من ظل شجرة لسكون الليل إلى غبشة الصبح.
- «مير سعيد بركات» هو معلم «تيمور لنك»، وهو من أصول تركية، وهنا يسمونه الأمير تيمور، لأن «لنك» تعني معطوب الرجل، وهم يجلونه عما يقوله الأعداء، عند وفاة «تيمور لنك» أوصى بأن يدفن تحت قدمي معلمه، هنا.. علينا أن نتوقف كيف صنع الإسلام كحضارة، وقيمة إنسانية بهؤلاء القوم المغول والتتار الذين جاءوا غزاة وهمجاً، وكيف اهتدوا، وعادوا مسلمين بقيم نبيلة
جريدة الاتحاد الإلكترونية 12/5/2018م
تنويه: لا تشير المراجع التاريخية إلى وجود دولة باسم طاجكستان قبل تقسيم تركستان الروسية إلى الجمهوريات السوفييتية الخمس التي استقلت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وإنما تشير إلى وجود خانية خيوة، وإمارة بخارى، وخانية قوقند. (المعد)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق