الأحد، 19 مارس 2017

فلسفة النوروز بين بشائر الخير ووحدة الشعوب


طشقند 19/3/2017 أعدها للنشر أ.د. محمد البخاري. تحت عنوان "فلسفة النوروز بين بشائر الخير ووحدة الشعوب" نشر موقع "أقلام وكتب" الإلكتروني المصري يوم 18/3/2017 مقالة كتبها: د. أحمد عبده طرابيك، وجاء فيها:


تحتفل العديد من الدول والشعوب الشرقية بعيد النوروز، وخاصة في المنطقة التي تشمل كل من إيران، تركيا، أفغانستان، دول آسيا الوسطى "طاجبكستان، كازاخستان (قازاقستان)، أوزبكستان، تركمانستان، قيرغيزستان"، أذربيجان، والشعوب الكردية، حيث تتشابه إلي حد كبير تقاليد وطقوس الاحتفال بهذا العيد الذي يعد في البعض منها أهم الأعياد بها، وخاصة إيران الذي يتوافق الاحتفال بعيد النوروز فيها مع حلول السنة الفارسية الجديدة التي تبدأ يوم 21 مارس/آذار حسب التقويم الهجري الشمسي. ولذلك فإن أصل كلمة نوروز مشتقة من اللغة الفارسية، والتي تتكون من مقطعين "نو" أي "جديد"، "روز" أي "يوم"، ومن ثم يكون معني "نوروز" هو "اليوم الجديد"، وقد وردت في بعض المعاجم العربية بلفظ "نيروز"، والذي يأتي مع حلول فصل الربيع.

يرجع أصل الاحتفال بالنوروز إلي الرواية التي تقول أن الملك الفارسي جمشيد، والذي كان يسمي "جم"، كان يسير في العالم، حتي وصل إلي أذربيجان، فأمر بإقامة عرش له فيها، وعندما جلس علي ذلك العرش أشرقت الشمس وسطع نورها على تاج وعرش الملك فابتهج الناس، وقالوا: هذا يوم جديد. ولأنّ الشعاع يقال له "شيد"، والتي أضيفت إلي اسم الملك فأصبح "جمشيد"، واتخذ ذلك اليوم احتفالاً بالنوروز، وتشير الحفريات التاريخية إلي أن الساسانيون الذي حكموا بلاد فارس قبل الإسلام قد احتفلوا بذلك اليوم واتخذوه بداية للسنة الفارسية، حيث تم وضع العام الفارسي على أساس الحسابات التي أجراها الكهنة البابليّون والفرس في بابل عن طريق رصد النجوم.
يرمز النوروز إلي الصراع بين قوى الظلام والنور، أو الفضيلة والرذيلة، أو بمفهوم أوسع يرمز للصراع بين الخير والشر، فالنوروز الذي يرجع إلى عصور ما قبل التاريخ، وتحديداً إلى فترة حكم الملك الفارسي جمشيد بن طهمورث في عصر الدولة الأخمينيية، هو بداية لفصل الربيع الذي تكتسي فيه الأشجار بالأوراق الخضراء بعد أن تكون قد تخلصت من أوراقها الجافة خلال فصلي الخريف والشتاء، ثم تتزين هذه الأشجار بالأزهار التي تعطر الأجواء بأريجها وشذراتها العطرة، وبعد ذلك تأتي بالثمار التي تهب الرخاء والازدهار، ولذلك فإن من أهم مراسم النوروز، مائدة السينات السبع "سفره ى هفت سين"، والتي تحتوي على سبعة أشياء تبدأ بحرف السين باللغة الفارسية وهي "سركه، ( الخل )، سيب (التفاح)، سكه (عملة معدنية)، سير (الثوم)، سبزه (العشب أو الخضرة)، سماق (السماق)، سمنو (نوع من الحلوى)".
وقد وصف البحتري النوروز قائلاً:
أتاك الربيــع الطلــق يختال ضاحكا من الحُسن حتى كاد أن يتكلما
وقد نبَـه النوروز في غلس الدُجى أوائــل ورد كـُـن بالأمس نوَما
يفتقها بــــــرد النــــــــــدى فكأنــه يبث حديثا كـــان قبــــل مكتما
فمــن شجــــر رد الربيــــــع لباس عليــه كما نشـرت وشيا منمما
أحــل فأبــــدى للعيــــــــون بشاشة وكان قذى للعين إذ كان محرما
ورق نسيــــم الريــــح حتى حسبته يجيء بأنفــاس الأحبــــة نعما
يتشابه الاحتفال بالنوروز مع الاحتفالات بشم النسيم، الذي ترجع بداية الاحتفال به إلى ما يقرب من خمسة آلاف عام، في أواخر الأسرة الثالثة الفرعونية، حيث ترجع تسمية "شم النسيم" إلى الكلمة الفرعونية "شمو" التي تشير إلي بعث الحياة، حيث كان الاعتقاد بأن أول الزمان وبداية الخلق كانت في مثل هذا اليوم ، وأضيفت كلمة "النسيم" لارتباط هذا الفصل باعتدال الجو، وطيب النسيم، وتفتح الأزهار التي تملأ الدنيا بهجة بأنوارها وشذرات طيبها العطر، وكان قدماء المصريين يحتفلون بذلك اليوم في احتفال رسمي كبير فيما يعرف بالانقلاب الربيعي، وهو اليوم الذي يتساوى فيه طول الليل والنهار زمنياً، فقد كانوا يجتمعون أمام الواجهة الشمالية للهرم قبل الغروب؛ ليشهدوا غروب الشمس، فيظهر قرص الشمس وهو يميل نحو الغروب مقتربًا تدريجيًّا من قمة الهرم، حتى يبدو للناظرين وكأنه يجلس فوق قمة الهرم، واليوم صار شم النسيم يجمع الامة - المسلم والمسيحي - علي البهجة والسرور.
أصدرت اليونسكو في فبراير/شباط 2010، قراراً بإدراج عيد النوروز في القائمة النموذجية للتراث غير المادي للبشرية، كما اعترفت بيوم 21 مارس/آذار من كل عام باعتباره "يوم النوروز العالمي"، حيث يحتفل به ما يزيد عن 300 مليون نسمة في جميع أنحاء العالم، ورغم اختلاف الشعوب التي تحتفل بالنوروز في اللغة والقومية والدين والثقافة، إلا أن فلسلفة النوروز تكمن في أن هذه الشعوب تلتقي وتتوحد في الاحتفال بذلك اليوم، باعتباره يوم بهجة لا ينتمي لدين أو قومية أو لغة، فهو عيد للطبيعة التي تكتسي بالخضرة بعد أن تساقطت أوراق اشجارها في الخريف والشتاء، فعادت إليها الحياة مرة أخري مزدهرة، مزهرة تبشر بثمارها الطيبة التي يأكل منها الجميع دون استثناء، فالله تعالي يمنح الخير لجميع عباده علي اختلاف ألوانهم وألسنتهم، ولذلك ليس بالشئ الغريب أن نجد في الدول التي تحتفل بالنوروز فيسفساء من البشر، يصل عددها في بعض الدول إلي أكثر من 130 قومية دينية ولغوية وعرقية، لكنهم يتعايشون فيما بينهم بمودة وسلام ومحبة وتعاون، فالوطن الذي يجمعهم هو ملك للجميع.
إنها الطبيعة الخلابة التي وهبها الله تعالي لبني البشر، ينهلون من خيرها، فلم يحرم أحداً أبداً من ذلك الخير، فالجميع هم خلق الله، الذي أخذ علي نفسه سبحانه وتعالي العهد بالرزق للجميع دون تفرقة، لا فرق بينهم. فالنورز، وشم النسيم، هي أيام بهجة، ترمز لبدء حياة جديدة توحد الشعوب التي عانت ويلات التفرقة والاقتتال، فيأتي الاحتفال بذلك اليوم ، آملين أن يكون يوم جديد لعهد جديد تسوده المحبة والسلام والاستقرار والازدهار للجميع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق