السبت، 21 يناير 2017

ابن حوقل رسام خرائط العالم الإسلامي قال بكروية الأرض في القرن الرابع الهجري


طشقند: 21/1/2017 أعدها للنشر أ.د. محمد البخاري. تحت عنوان "ابن حوقل.. رسام خرائط العالم الإسلامي قال بكروية الأرض في القرن الرابع الهجري" نشرت صحيفة "الخليج" يوم 21/01/2017 مقالة أعدها: محمد إسماعيل زاهر، وجاء فيها:


"هذا كتاب المسالك والممالك، والمفاوز والمهالك، وذكر الأقاليم والبلدان، على مر الدهور والأزمان.. وطبائع أهلها وخواص البلاد في نفسها، وذكر جباياتها وخراجاتها ومستغلاتها، وذكر الأنهار الكبار، واتصالها بشطوط البحار، وما على سواحل البحار من المدن والأمصار، ومسافة ما بين البلدان للسفارة والتجار.. مع ما ينضاف إلى ذلك من الحكايات والنوادر والآثار"، يتجاوز طموح ابن حوقل في كتابه "صورة الأرض"، تلك المقدمة التي يخبرنا فيها بما ينوي إنجازه في هذا المؤلف اللافت، إذ لا نكاد نتجاوز فاتحة الكتاب، حتى نجد أنفسنا أمام جغرافي ينتقل من الوصف السردي للأمكنة إلى صور وخرائط يرسمها لمختلف البلدان التي يتحدث عنها "وقد جعلت لكل قطعة أفردتها تصويراً وشكلاً يحكي موضع ذلك الإقليم، ثم ذكرت ما يحيط به من الأماكن والبقاع، وما في أضعافها من المدن والأصقاع، وما لها من القوانين والارتفاع".
يفتتح ابن حوقل كتابه "بديار العرب، ومعه ترتحل إلى مصر والعراق، تبحر في النيل ودجلة والفرات والخليج، يتجول بك في جبال وأودية وأنهار أذربيجان والصين والهند.. إلخ، يصف مملكة الإسلام وصفاً مفصلاً «فأما مملكة الإسلام فإن شرقيها أرض الهند.. وغربيها مملكة السودان.. وشماليها بلاد الروم وما يتصل بها من الأرمن واللان والران والسرير والخزر والروس والبلغار والصقالبة وطائفة من الترك، ومن شمالها بعض مملكة الصين"، ثم يعود ليحدد موقع تلك الأماكن نفسها من العالم الإسلامي، كأن يقول "وأما مملكة الصين فإن شماليها وشرقيها البحر المحيط وجنوبيها مملكة الإسلام والهند"، وربما يعود هذا إلى اهتمامه المنصب على الخرائط والرسوم الجغرافية، أو عدم ثقته في كتب الجغرافيين السابقين عليه "فلم أقرأ في المسالك كتاباً مقنعاً، وما رأيت فيها رسماً متبعاً، فدعاني ذلك إلى تأليف هذا الكتاب".
معجم الأماكن
عاش أبو القاسم محمد بن حوقل في القرن الرابع الهجري، حيث يرجح أنه توفي في عام 367هـ، والمعلومات عن حياته ضئيلة جداً، ولكننا نجده يحدد تاريخاً لبدء رحلاته "بدأت سفري من مدينة السلام، بغداد، يوم الخميس لسبع خلون من شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وثلاثمئة"، ولد في مدينة نصيبين في شمال شرق الجزيرة الفراتية وإليها ينسب، فيقال ابن حوقل النصيبيني، وتشعر في كتابه أنه جمع بين سير ورؤى عدة جغرافيين عرب، فعشقه للأمكنة وذكرها بالتفصيل وكأنه يختط لها معجماً أو قائمة يذكرك بالمقدسي، وهو ما يظهر أيضاً في انتقاداته لمؤلفات من سبقوه، أما في تعليقاته على سلوكيات الشعوب وعاداتها وتقاليدها فيتقاطع مع ابن فضلان.
في وصفه لديار العرب يبدأ بالجغرافيا كعلم، وينتهي ليمزج التاريخ بالحكايات بالأساطير، "وديار العرب هي الحجاز التي تشتمل على مكة والمدينة واليمامة..ويتصل الحجاز بأرض البحرين وبادية العراق وبادية الجزيرة وبادية الشام"، ثم يستند إلى ثقافة عصره في القول: "وكانت هذه الديار عظيمة خطيرة الملوك، ملكها الفراعنة والتبابعة، ومنهم من ملك أكثر أهل الأرض في سالف الزمان، كتبع الذي مدّن مدينتي صنعاء وسمرقند، وكان يقيم بهذه حولاً وبهذه آخر. ومن أهلها فرعون إبراهيم وهو سنان بن علوان، وفرعون موسى، عليه السلام، مصعب بن الوليد"، وهو يذكر تاريخ القبائل العربية، وزعماءها وحكاياتها، ويشرح الأمكنة أحياناً بالتفصيل الممل ويحرص على إيراد المسافات بين مختلف المدن والقرى والكور التي يتحدث عنها، ونشعر أحياناً أنه يمسك بكاميرا ليصور ملامح المكان من زوايا مختلفة "ومن وقف على الصفا رأى الحجر الأسود"، ثم يسترسل في رسم لوحة جغرافية تاريخية لمكة المكرمة.
يتحدث بعشق عن صنعاء، وأيضاً بعين العالم الذي يدرك أثر المناخ والجغرافيا في طبائع البشر ودور ذلك في صنع الحضارات قائلاً: "وليس بجميع اليمن مدينة أكبر ولا أكثر مرافق وأهلاً من صنعاء. وهي بلد في خط الاستواء، وهو من اعتدال الهواء بحيث لا يتحول الإنسان عنه شتاء ولا صيفاً، ويتقارب بها ساعات الليل والنهار لأن محور الشمس عليها معتدل. وفيها كانت ديار ملوك اليمن في ما تقدم، وبها آثار بناء عظيم قد خرب، وهو تل كبير يعرف بغمدان، وكان قصراً لملوك اليمن، وليس باليمن بناء أرفع منه على خرابه".
في المغرب يقف أمام الطرق والمدن والأودية واصفاً بإسهاب، متورطاً في خرائط مماثلة لعقائد وأفكار ومذاهب السكان، الجغرافيا البشرية، ويتطرق أيضاً إلى الأسواق والبضائع الرائجة والحمامات العامة وأماكن استراحة المسافرين، بما يحيلك إلى فكرة كتب الخطط، المقريزي على سبيل المثال، ويحلل أخلاق البشر وسلوكياتهم، ويتتبع تاريخ الأمازيغ، ويسرد قصصهم، وربما قدم هذا التفسير أو ذاك في أسباب تسميتهم بالبربر، يقول: "والبربر بالمغرب قبائل لا يلحق عددهم، ولا يوقف على آخرهم، لكثرة بطونهم وتشعب أفخاذهم وقبائلهم وتوغلهم في البراري، وتبددهم في الصحارى".
والأندلس عند ابن حوقل من "نفائس جزائر البحر، ومن الجلالة في القدر بما حوته. وطولها شهر في عرض نيف وعشرين يوماً، وهو تحديد غير دقيق لمساحتها، وأكثرها عامر مأهول"، ويستوقفه في الأندلس كثرة أنهارها وأشجارها ورخص أسعارها وقدرة معظم سكانها على تملك الدور الخاصة، "وأعظم مدينة بالأندلس قرطبة وليس بجميع المغرب لها شبيه، ولا بالجزيرة والشام ومصر ما يدانيها في كثرة أهل وسعة رقعة وفسحة أسواق ونظافة محال"، والأهم من ذلك إشاراته المتكررة إلى ذلك الخليط الفكري المتواجد في الأندلس، وذلك التواجد الضخم للمسيحيين واليهود في الإقليم والذين يعيشون في سلام ومحبة مع مسلمي الأندلس.
في بلاد السند تستوقفه كثرة الديانات والعقائد، ويصف لك بتفصيل دور العبادة وحتى الآثار المتناثرة في البلاد، ويلفته مثلاً تحدث أهل مدينة المنصورة في السند بالعربية، وبلاد السند عند ابن حوقل آخر حدود ديار الإسلام، ولذلك هو يبدأ الجزء الخاص بـ "أرمينية وأذربيجان" بالقول: "فلنرجع لوصف تلك البلدان، ويرسم لوحة لمدينة تفليس، يقول فيها: لها ثلاثة أبواب، وهي خصبة حصينة كثيرة الخيرات رخيصة الأسعار..وأهلها قوم فيهم سلامة وقبول للغريب وأنس..وانتساب إلى شيء من الأدب". ويخصص فصلاً لبحر الخزر وهذا البحر ليس له اتصال بشيء من البحار، ويتحدث عن نظام الحكم في مملكة الخزر في ذلك الزمان والذي يبدو أنه تميز بالتعددية ومشاركة الجميع في نظام الحكم: "وللملك سبعة من الحكام من اليهود والنصارى والمسلمين وعبدة الأوثان، وإذا عرض للخاصة والعامة أمر حكم فيه هؤلاء الحكام ولا يصل أهل الحوائج إلى الملك نفسه، وإنما يصل إلى هؤلاء وبينهم وبين الملك سفير يراسلونه فيما يجري ويشجر بينهم ويطلعونه على ما يكون منهم، فيرد عليهم أمره عند ذلك بما يعملون عليه".
بلاد ما وراء النهر عند ابن حوقل، أوزبكستان وجزء من كازاخستان وجزء من قيرغستان وفق الجغرافيا المعاصرة، أقرب مناطق العالم الإسلامي إلى الحرب، حيث كانوا يحفظون الحدود ضد هجمات القبائل التركية، الترك الغزية، آنذاك. ويلاحظ ابن حوقل كثرة أماكن الاستراحة والأسبلة في تلك البلاد: "في سمرقند زيادة على ألفي مكان يسقى فيها المسافر من بين سقاية مبنية وحباب نحاس منصوبة وقلال خزف مثبتة في الحيطان"، وهو يتجول باستفاضة في مدن تلك البلاد ذات الشهرة التاريخية في الثقافة الإسلامية مثل: سمرقند وبخارى وفرغانة وطشقند وخوارزم ومرو وترمذ، وهي المدن التي أنتجت الكثير من مشاهير العلماء المسلكين مثل: الخوارزمي وابن سينا والفارابي والبخاري والترمذي والبيروني.. إلخ
الاعتماد على العقل
يستند ابن حوقل في كتابه ليس إلى التراث العربي في الجغرافيا، ولا إلى انطباعات الرحالة والمشاهدات العيانية وحسب، ولكن هناك معرفة واسعة بتراث الهند في ذلك العلم وأيضاً التراث اليوناني، حيث ينقل عن بطليموس قوله: "استدارة الفلك على الأرض في مكان خط الاستواء ثلاثمئة وستين درجة، والدرجة: خمسة وعشرون فرسخاً، والفرسخ اثنا عشر ألف ذراع، والذراع أربع وعشرون أصبعاً، والأصبع ست حبات شعير مصفوفة"، وأيضاً: "وبين خط الاستواء وكل واحد من القطبين تسعون درجة"، "ونحن نعيش في الربع الشمالي من الأرض، والربع الجنوبي خراب..والنصف الذي تحتنا لا ساكن فيه"، ويعلق على كلام بطليموس بالقول: "وهذا كلام عقلي". بمعنى أن البحث الجغرافي العربي اعتمد على العقل، مستفيداً من أفكار بعض الإغريق الذين سبقوا عصرهم، ومتجاوزاً للحظة العصور الوسطى الأوروبية المزامنة له والتي كانت ترفض فكرة كروية الأرض.
عاش ابن حوقل في القرن الرابع الهجري، ذلك القرن الذي بلغت العلوم العربية الإسلامية فيه الذروة، ونلاحظ أولاً أن ابن حوقل والمقدسي والإدريسي على سبيل المثال اعتبروا الجغرافية علماً تطبيقياً، أي يحتاج إلى المعاينة والتجربة، ولذلك تغلب السمة البحثية على أعمالهم أكثر من الانخراط في وصف الغرائب والعجائب وسلوكيات البشر مثل ابن بطوطة وابن فضلان على سبيل المثال، حيث نشعر بالطابع الإمتاعي الذي يغلب على أعمال هذين الأخيرين، كذلك هناك تمايز واضح بين البحث الجغرافي عند ابن حوقل والنزعة التثقيفية في معاجم البلدان. لقد كان علم الجغرافيا يتأسس عند ابن حوقل والمقدسي مثلاً على قواعد ووصف يتسم أحياناً بالجفاف. وهناك ملاحظة ربما لم يلتفت إليها دارسو التراث العربي وتتعلق بالخلفية الفكرية المؤسسة لكثير من العلماء العرب ونقصد بها البيئة التي أفرزتهم ومدى رواج تلك الأفكار التقدمية في تلك البيئة، ففكرة مثل كروية الأرض نردد في مدارسنا الحديثة أنها نتاج النهضة الأوروبية، أو نقول بفخر إنها اكتشاف عربي، أو إحياء عربي لمقولة يونانية أو هندية مهجورة لم تكن أكثر من فكرة عادية يتحدث عنها ابن حوقل ببساطة ومن دون اهتمام لافت، بمعنى أنها كانت مسلمة في بيئته، ولنا أن نقيس على ذلك الكثير من الأفكار الطبية والفلكية والهندسية.. إلخ، التي ترددت بقوة في أعمال العلماء العرب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق