الأحد، 29 مارس 2015

البيروني جغرافي الخرائط الفلكية برهن على كروية الأرض ورصد 1029 نجمآ


تحت عنوان "البيروني جغرافي الخرائط الفلكية برهن على كروية الأرض ورصد 1029 نجمآ" نشرت جريدة الخليج الصادرة في الشارقة يوم 28/3/2015 دراسة أعدها: محمد إسماعيل زاهر، وجاء فيها:


في بلاط سلطان بخارى المنصور بن نوح في نهايات القرن الرابع الهجري يقدم عالم الجغرافيا الفلكية أبو الريحان البيروني للسلطان كتابيه "الجماهير في معرفة الجواهر" و"النسب التي بين الفلزات والجواهر في الحجم"، فيقول له السلطان: "ظننتك عالم فلك مرة، وعالم نبات مرة، وها أنت تؤكد أنك عالم طبيعيات، فأي عالم أنت يا أبا الريحان"، فرد قائلاً: "يا مولاي العلم وحدة متصلة الحلقات، يؤدي بعضها إلى بعض، وكلها أساس لبعضها بعضاً، ومن تبحر في علم توصل إلى بقية العلوم، والأساس فيها كلها الطريقة والمنهج بالمشاهدة والملاحظة والاستقراء، والتجربة للتثبت من النتائج والتحفظ من الخطأ".
يستوقف قارىء سيرة البيروني فضلاً عن الموسوعية والالتزام بالنظرة العلمية القائمة على التجربة والاستقراء إلى آخر تلك السمات التي ميزت علوم الحضارة العربية الإسلامية في أوج ازدهارها، ذلك الولع بالسفر والتنقل بحثاً عن العلم والاستفادة من المشاهدات المختلفة للبلدان التي يمر بها، الأمر الذي أنتج كتابه الأشهر "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة"، الذي كتبه في عشر سنوات ومن خلاله تعرفت النهضة الأوروبية إلى تلك الحضارة البعيدة والغامضة، وهو الكتاب الذي وضع البيروني بخلاف تخصصاته العلمية الأخرى في مصاف كبار الأدباء والرحالة .
الرحيل وراء العلم
توزعت حياة البيروني بين بلدان عدة، في خوارزم، أوزبكستان الحالية، حيث ولد في مدينة "كاث" في عام 362 هجرية، 973 ميلادية، وهناك بدأ اهتمامه بالنبات والجغرافيا وبين مدينة "الري" حيث تعرف إلى فلكي الدولة البويهية المعروف الخوجندي، و"بخارى" التي صاحب فيها الشيخ الرئيس ابن سينا ودارت فيها بينهما المناقشات والحوارات العلمية، وفي "جرجان" سيتعرف إلى الفيلسوف والأديب الشهير ابن مسكويه، والهند والتي قيل إنه زارها لأكثر من 13 مرة.
تميزت حياة البيروني بالصعوبة وتعرض لتقلبات السياسة، فبعد موت والده لم تجد أمه ما يمكن أن يوفر لها ولابنها حياة معقولة إلا جمع الحطب والاتجار فيه في أسواق مدينة "كاث"، وذات يوم يشاهد الطفل الذي لم يبلغ العاشرة بعد أحدهم يقطع النباتات والزهور، فيسأله: "لماذا تقطع الزهور يا سيدي وبوسعك رسمها مثلي؟"، فيرد الرجل: "أنني أجمعها من أجل العلم، فمنها نأخذ العقاقير والأدوية، لشفاء الناس من الأمراض"، ويأتي الدور على الرجل ليسأل الطفل": هل تحب الزهور والنباتات؟"، فيجيب: "بل الطبيعة بأسرها من نجوم وكواكب وأشجار وجبال وهضاب ووديان"، وفي مدينة "كاث" أيضاً اتصل البيروني في مراهقته بعالم الرياضيات والفلك أبو نصر منصور بن علي بن عراق والذي تعلم على يديه الكثير، وعندما بلغ التاسعة عشر أجرى البيروني أولى تجاربه لمعرفة خط العرض الذي تقع عليه مدينته، فصنع لنفسه حلقة مقسومة إلى أنصاف الدرجات، رصد من خلالها ارتفاع الشمس عن الأرض فوق المدينة في وقت الظهر، الزوال، حيث يصبح كل شيء لا ظل له، وبالحسابات نجحت تجربة البيروني، وهو ما دفع ابن عراق ليعرفه إلى العام الشهير عبد الصمد الحكيم والذي صحبه لمدة خمس سنوات تعلم خلالها علوم الأقدمين في الفلك والجغرافيا والرياضيات.
أدت الصراعات التي شهدتها الدولة الخوارزمية آنذاك بالبيروني لكي يرحل إلى مدينة الري، وفيها عانى البؤس، وبعد فترة يتعرف إلى الخوجندي فتتحسن أحواله ويؤلف كتابه الأول "حكاية الآلة المسماة بالسدس الفخري" وفيه بيان مفصل بحال الشمس في أوقات الزوال على مدار فصول السنة المختلفة، وفي هذه الفترة أيضاً حدد البيروني موعد خسوف القمر بدقة لا متناهية.
يرحل البيروني مرة أخرى إلى"بخارى" بحثاً عن الاستقرار الذي يتيح للعالم القيام بتجاربه، وفي مكتبتها الضخمة يلتقي الطبيب الشاب الشيخ الرئيس ابن سينا وعبر هذا الأخير يصل البيروني إلى السلطان الذي يعجب بمعرفة البيروني الواسعة في الرياضيات والفلك والنبات وبإجادته للغات العلم في ذلك الزمان: العربية والفارسية واليونانية والسريانية، فيقربه منه ويضمه إلى مجلس علماء قصره، وفي هذا المجلس تدور النقاشات بين العلماء والفلاسفة وتبرز موهبة البيروني .
خلال هذه الحوارات والنقاشات أظهر البيروني للعلماء أن سرعة الضوء أكبر من سرعة الصوت، وعلل لهم تمدد المعادن بالحرارة وكيفية حدوث الينابيع الطبيعية والآبار الصناعية باستخدام قانون توازن السوائل، ودهش العلماء وهم يستمعون إلى البيروني متحدثاً عن الوزن النوعي لاثنتي عشرة مادة من المعادن بواسطة دورق له ميزان مائل إلى الأسفل، وكان من بين هذه المعادن: الذهب، الزئبق، النحاس، الحديد، القصدير، العقيق، الياقوت، الرصاص، النحاس الأصفر، اللازورد والكوارتز، وكان تحديده لوزنها النوعي دقيقاً إلى درجة أنها لم تختلف عن وزنها الحديث إلا بضع درجات من مئة درجة. وفي هذا المناخ ألف البيروني كتابيه اللذين أهداهما إلى سلطان "بخارى" وسبقت الإشارة إليهما.
تتواصل رحلات البيروني بحثاً عن الجديد أو هرباً من تقلبات الظروف، وفي "جرجان" يتعرف إلى العالم أبو سهل المسيحي، ويؤلف كتاباً في التاريخ بعنوان "الآثار الباقية من الأمم الخالية"، إضافة إلى رسائل ثلاث عن الحساب العشري والرصد الفلكي والإسطرلاب، ويتمكن من رصد خسوفين للقمر، وفي "جرجان" يقيم حلقة رصد كبيرة نفذ من خلالها خمسة عشر رصداً لارتفاع الشمس في أوقات الزوال، وصنع كرة قطرها عشر أذرع رسم عليها الحلول التي يراها لبعض المسائل الجغرافية، فضلاً عن الأقاليم والبلدان وخطوط الطول والعرض، وأنجز في هذه الفترة أيضاً كتبه: "التفهم لأوائل علم التنجيم"، "تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن"، و"الكتاب في الإسطرلاب" .
توافق العلم والدين
ويورد سليمان فياض في كتاب "البيروني . . عالم الجغرافيا الفلكية" قصة تحمل الكثير من الدلالات، ففي بلاط السلطان محمود الغزنوي في مدينة غزنة حيث تلك الدولة التي ضمت بلاد أفغانستان وخوارزم وإيران وشمال الهند، غضب السلطان يوماً من حديث رئيس وفد أتراك الفولجا عن تلك البلدان الموجودة في أقصى الأرض حيث تبقى الشمس مشرقة لعدة شهور متوالية، واتهم السلطان الوفد بالكفر وفي ثورته قرر سجنهم أو على الأقل طردهم حتى تدخل البيروني قائلاً: "يا مولاي، الأتراك لم يكذبوا في خبرهم هذا، وفي كتاب الله مصداق ما قالوه، عن هذه الظاهرة الشمسية، يقول تعالى: "حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم نجعل لهم من دونها ستراً"، وبالوسع يا مولاي تعليل هذا القول جغرافيا، إذا وضعنا كرة تمثل الأرض وأدرناها أمام مصباح".
ومن أمثال هذه البعثات وأخبار البلدان الإسلامية المفتوحة عرف البيروني الكثير عن جهات في الأرض لم تكن مطروقة أيام اليونانيين القدماء، حيث كانت الجغرافية محدودة الأبعاد وعلم الفلك يهيمن عليه السحر والشعوذة .
يعتبر كتاب "القانون في علوم الهيئة والنجوم" أو كتاب "القانون المسعودي" أهم مؤلفات البيروني في الفلك والرياضيات والجغرافيا ويقع في 142 باباً، وفي هذا الكتاب برهن البيروني على كروية الأرض ودورانها حول الشمس وحركتها حول نفسها على محور مائل وقدم تصوراً على الجاذبية الأرضية، يقول: "كل جسم في الكون يؤثر بقوة جذب في جسم آخر، ومقدار هذه القوة يتناسب طردياً مع حاصل ضرب الكتلتين وعكسياً مع مربع المسافة بينهما"، وتحدث في الكتاب كذلك عن حركة النجوم حول محور فلك البروج، وحدد موقع 1029 نجماً ووضعهم في خرائط فلكية سماوية، وساق توضيحاً هندسياً لحركة الكواكب وربط بين حركتها وحركة الأرض حول الشمس، ووضع قانوناً باسمه لمعرفة قطر الأرض ولم يختلف العلم الحديث كثيراً عن ذلك، وأشار إلى الجهات الأربع الأصلية لتحديد موقع الإنسان بدقة أينما كان، وشرح مع التعليل والرسوم كسوف الشمس وخسوف القمر، واكتشف أن نقطة بعد الشمس عن الأرض تتحرك درجة واحدة كل 305 سنوات .
وكتب البيروني في هذا العمل الأشهر عن أكثر من 600 بلد ومكان، عن أقاليم العالم السبعة، وعن شعوب سيبيريا الشرقية، وعن الشعوب الإسكندنافية وعن الصناعات المعدنية في أوروبا الشمالية، وعن القطب الشمالي أو بحر الثلج العظيم، ووصف جبال الهيملايا في الهند والألب في أوروبا، وأشار إلى عمران الجهة المقابلة للعالم من الأرض، الأمريكيتين الآن، وشرح ظاهرة المد والجزر، وفسر تكوين السهول والجبال والقشرة الأرضية والزلازل والبراكين، وبرهن على اتصال المحيط الهندي بالأطلسي .
وتضمن الكتاب كذلك الجداول الرياضية، استعمل فيها البيروني النسب المثلثية، وأوجد من المساحة أطوال أضلاع الأشكال الهندسية المنتظمة، وكان أول من توصل من علماء الرياضيات إلى إيجاد النسبة التقريبية "ط"، ونجح في استنباط قوانين رياضية جديدة من نظرية أرشميدس حول الخط المنكسر .
المعرفة حتى النهاية
ويروى أن أحد العلماء زاره وهو على فراش الموت، فسأله البيروني عن مسألة علمية، فبكى العالم وقال له "أعلى فراش الموت تطلب العلم؟ فرد البيروني: "أخشى أن ألقى ربي وأنا جاهل"، توفي البيروني في عام 440 هجرية، 1048 ميلادية، تاركاً 146 مؤلفاً في التاريخ والجغرافية والفلك . . الخ، وله وكتاب عن الطب والصيدلة بعنوان "الصيدلة في الطب" وآخر في الهندسة بعنوان "استخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحني فيها"، بالإضافة إلى بعض الأشعار والمقالات الأدبية .
يقول عنه المستشرق الألماني سخاو: "إن البيروني من أضخم العقول التي ظهرت في العالم، فهو أعظم علماء عصره ومن أعظم العلماء في كل العصور"، أما المستشرق مايرهوف فقال: "إن اسم البيروني أبرز اسم في موكب العلماء الكبار واسعي الأفق الذين يمتاز بهم العصر الذهبي للإسلام"، وقال عنه المستشرق الأمريكي أريو بوب: "في أيه قائمة تحوي أسماء أكابر العلماء يجب أن يكون للبيروني مكانه الرفيع، ومن المستحيل أن يكتمل أي بحث للرياضيات أو الفلك أو الجغرافيا أو علم الإنسان أو المعادن من دون الاعتراف بفضله والإقرار بإسهاماته العظيمة في كل علم من تلك العلوم، وقد كان البيروني من أبرز العقول المفكرة في جميع العصور، وتميز بالصفات الجوهرية التي تخلق العالم، وأهمها الشمول وعدم التقيد بالزمن، شأن كل العقول العظيمة".
ويعترف العالم الغربي ديفيد سميث في كتابه "تاريخ الرياضيات" بأن البيروني كان ألمع علماء عصره في الرياضيات، وأن الغربيين مدينون له بمعلوماتهم عن الهند وعلومها، لقد كان يكتب مؤلفاته مختصرة منقحة وبأسلوب مقنع وبراهين مادية، وهو من الذين بحثوا في تقسيم الزاوية إلى ثلاثة أقسام وكان ملماً بحساب المثلثات، وتدل كتبه على معرفة بقانون "تناسب الجيوب، وله جداول رياضية للجيب والظل، كذلك اشتهر في الطبيعة والميكانيكا، وله شروح في ضغط السوائل وتوازنها، وصعود مياه الفوارات والعيون إلى أعلى، وله نظرية في محيط الأرض في كتابه (الإسطرلاب) واستعمل معادلة لحساب نصف قطر الأرض يطلق عليها العلماء قاعدة البيروني".
واهتمت العديد من الجامعات والمراكز العلمية في الغرب بالبيروني، وحققت ونشرت الكثير من مؤلفاته، حيث أصدرت أكاديمية العلوم السوفييتية في عام 1950 مجلداً ضخماً عن حياته وأعماله، كما صدر في الهند مجلد تذكاري عن البيروني في عام 1951، وأطلقت "ناسا" اسمه على إحدى فوهات القمر في عام 1970 تكريماً لإسهاماته القيمة في علم الفلك .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق