الثلاثاء، 21 يوليو 2020

أوزبكستان ومنابع الحضارة الإسلامية

أوزبكستان ومنابع الحضارة الإسلامية
طشقند 21/7/2020 أعدها للنشر أ.د. محمد البخاري.
تحت عنوان "أوزبكستان ومنابع الحضارة الإسلامية" نشرت الوسيلة نيوز يوم 20/7/2020 مقالة كتبها الدكتور أحمد عبده طرابيك، وجاء فيها:


نهضت الأمة الإسلامية وأقامت حضارتَها التي أبهرت العالم بإنجازاتها العلميَّة والَّثقافيَّة، بفضل جهود أعلام عظام، عزَّ تاريخ الإنسانيَّة القديم والحديث أن يجود بمثلهم؛ ولا غَرْوَ فهم رواد الحضارة وأعلامها، وهم صور رائعة تعكس سمو هذه الحضارة الإسلاميَّة الإنسانيَّة، حتى صاروا مرادفاً لها؛ وغدا ذِكْرهم ذِكْراً لهذه الحضارة، كما غدتْ دراسة حياتهم دراسة لها أيضاً، والإقتداء بهم شرف لكل من أراد السير علي دربهم.
بلغ البحث العلمي قمته في الحضارة الإسلامية، مع بداية القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، حتى القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، وقد صاحب تلك الطفرة العلمية، نهضة ثقافية وحضارية شملت العلوم الإنسانية والفنون والعمارة وعلوم اللُّغة، حيث سادت اللُّغة العربيَّة بعدما أصبحت لغة العلم والثقافة، وقد أخذ هذا كله شكل حركة دائبة في داخل حضارة متكاملة نشطة، وتعدَّدت أسماء العلماء في مختلف مجالات وفروع العلم والمعرفة، ورغم انتماء هؤلاء العلماء لأصول اجتماعية متغايرة في اللغة والقومية والجغرافيا، إلا أنه قد صهرتهم الثقافة الجديدة التي نشأوا فيها وتحركوا في داخلها، حركة عمادها الخبرة والثِّقة في الذَّات، والرؤى النَّافذة التي لاح لهم من خلالها طرق لم يسلكها أحد من قبل في الثقافات التي خلت وأصبحت اللُّغة العربيَّة لغة كل المعارف، وأصبحت المدن الإسلاميَّة حواضر يقصدها طلاب العلوم من مختلف أرجاء الأرض، جمعتهم أهداف سامية، هي الإجتهاد من أجل الرقي بأمتهم وبناء مجدها الخالد.
لقد ارتبطت أوزبكستان ومعها منطقة آسيا الوسطى بالحضارة الإسلاميَّة منذ القرن السَّابع الميلادي حينما فتحها العرب المسلمون وأطلقوا عليها "بلاد ما وراء النهر"، وقدمت منذ ذلك الحين الكثير من العلماء الذين كانت لهم إسهامات مشهودة في علوم الرياضيات والطب والفلسفة والحديث والفقه واللغة، وقد ساهمت أوزبكستان بشكل خاص البلاد بقسط وافر في الموروث الحضاري الإسلامي، حيث تعتبر من أكثر بقاع العالم الإسلامي ثراءً من حيث مواطن العلماء الذين أثروا الحضارة الإسلاميَّة بعلمهم الواسع في مختلف فروع العلوم والمعرفة، ويرجع ذلك إلى أن سكان المنطقة عرفوا استقراراً حول نهري سيحون وجيحون، المعروفاتن حالياً باسم سرداريا وأموداريا، حيث انتشر حولهما التَّحضر والعمران، وقد أثرت ثنائية "بدو، حضر" في منطقة ما وراء النهر وخراسان فظهرت في أوزبكستان أغلب الحواضر ذات التأثير الثقافي والديني كسمرقند، وبخارى وترمذ، وشاش، وخوارزم، وغيرها.
يعبر إنتاج علماء المسلمين الضخم في مجال العلوم والرياضيات عن المكانة العظيمة التي وصلت إليها الحضارة العربيَّة والإسلاميَّة، ولا شك أن لعلماء العرب والمسلمين في هذا الحقل أثراً لا ينكر شأنه وقدره في قيام المدنية الحديثة التي ما كان لها أن تشب وتزدهر في بلاد الغرب لو لم تعتمد على أساس قوي من هذا التراث الإسلامي، فقد تمكن علماء الإسلام من صهر إسهامات الأمم السابقة مع إسهاماتهم في بوتقة واحدة ليقدموا للإنسانية حضارة إسلامية متكاملة.
وإذا كان انتشار الإسلام في بخاري، وبلاد ما وراء النهر في حملات العرب الأولي قد لقيت مقاومة وصعوبة، إلا أنه بعد ذلك بفترة وجيزة أقبل سكان تلك البلاد لإعتناق الإسلام عن وعي وإدراك وإيمان وبدون إلزام أو إكراه، فأخذت قبائل الترك تعتنق الإسلام أفواجاً، وينضمون إلي زمرة المجاهدين الفاتحين لنشر الدين الحنيف وإعلاء كلمة الله، ومن ثم خرج من تلك البلاد قادة حملوا لواء نصر ة دين الله، وعملوا علي اتساع نشر الدين الحنيف في مناطق لم تعرفه من قبل، وخاصة في عهد الدولة التيمورية التي أسسها الأمير تيمور، وتبعه أبناؤه وأحفاده في ذلك الطريق، حتي أقام حفيده الأمير بابور الدولة التيمورية في الهند.
توطدت دعائم الإسلام في وسط آسيا، وازدهرت في عصر أبي جعفر المنصور العباسي، وبدأت العلاقات تتوثق بين شعوب المنطقة وبين المركز الإسلامي في بغداد في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان وابنه سليمان بن عبد الملك، ومن ثم ارتبطت آسيا الوسطي كلها "تركستان، أفغانستان، إيران" بالقيادة المركزية الإسلاميَّة ومن هذه البلاد وتدفق العلماء الأجلاء، كما تدفقت الأموال الطائلة إلي المركز الإسلامي في بغداد، وحتي أن المؤرخين وصفوا منطقة آسيا الوسطي بأنها الدُّرة الثَّمينة في تاج الخليفة العباسي.
بلغت الحضارةُ الإسلاميَّةُ في عواصم بخاري، سمرقند، شاش، خيوة، مرو، في العصر العباسي مكانةً رفيعةً، وأنشأت معاهد علمية ومدارس للتعليم في كلِّ مدينةِ، فانتشرت اللُّغةُ العربيَّةُ انتشاراً سريعاً واسعاً بين السكان حتَّي كادت تصبح هي اللُّغة السَّائدة. وقد بلغت المعاهد والمدارس في بخاري وسمرقند وطشقند ساميةً تُضاهِي بغداد والأندلس والقاهرة، فكان يفد إليها الطلاب من الشَّرق والغرب، وهكذا خرج من تلك المعاهد والمدارس الكثير من كبار العلماء الذين تركوا لمَن بعدهم مؤلفاتهم الزَّاخرة، وثمرات أفكارهم التي يستضئ بها العلماء والباحثون إلى يومنا هذا.
اقترن العديد من أسماء العلماء في أغلب الأحوال بمسقط رأسهم، أو نُسبوا إلي المدن والقري التي عاشوا فيها، أمثال "البخاري، الترمذي، الشاشي، السمرقندي، الفراغاني"، وغيرهم" وهي مدنٌ وقُري معروفة إلى اليوم بأسمائها القديمة أو تم تعديل بعضها مثل شاش التي أصبحت طشقند عاصمة أوزبكستان حالياً.
وهذا العام تحتفل مدينة بخاري "عاصمة للثقافة الإسلامية"، وهي تفتخر بما قدمته من اسهامات في الحضارة الإسلامية، يشهد علي تلك الإسهامات التراث الفكري والعلمي لكبار العلماء الذين لم يجود التاريخ بمثيل لهم حتي الآن، يأتي علي رأسهم الإمام البخاري. إلي جانب ما تحتضنه المدينة من تراث معماري يحكي للأجيال علي مر العصور تاريخ تلك المدينة وما قدمته للحضارة الإسلامية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق