الاثنين، 6 أبريل 2020

بخارى عربٌ من أحفاد جند قتيبة. كتبها: عبد العزيز قاسم، اعلامي وكاتب صحفي سعودي

بخارى عربٌ من أحفاد جند قتيبة. كتبها: عبد العزيز قاسم، اعلامي وكاتب صحفي سعودي
بخارى.. عربٌ من أحفاد جند قتيبة


بقلم: عبد العزيز قاسم، اعلامي وكاتب صحفي سعودي
ثمة مواقف تمرّ على الواحد منا في سفرياته، تظل حاضرة في ذاكرته لا تشحب، بسبب قوة تأثيرها عليه، ومن هذه المواقف ما حدث لي في مدينة بخارى، عندما أبلغني المرافق بأن ثمة قرية سكانها من العرب الذين أتوا مع قتيبة بن مسلم الباهلي فاتح هذه البلاد، وتبعد 35 كيلومتر عن المدينة؛ ما استوفز كل حواسي، وحرّك الإعلامي بداخلي، فألغيت برنامج زيارة كل المناطق الأثرية التي أقصد، وطلبت التوجّه فوراً لهذه القرية.
بمجرّد وصولنا “جوكاري”، وهو اسم القرية هناك، اتجهنا لأول من لاقيناه، وكان رجلاً في الخمسينيات من عمره، وانتبهت لسحنته المختلفة عن أهل هذه البلاد، وسلّمت عليه وحادثته باللغة العربية، فردّ عليّ. كان يفهم عني، ولكن عندما يردّ عليّ بلغته؛ لا أفهم منه، فأضطر أن أطلب ليتحدث بالأوزبكية كي تتمّ الترجمة لي، وسرعان ما تحلّق شباب القرية وصبيتها حولنا، عندما رأوني بالثوب السعودي والشماغ والعقال.
غمرني إحساسٌ غريب، كمن عثر على كنز، وتفجّرت بداخلي حماسة وتشّوف وحبّ استطلاع، وبتّ أتفرّس في هاته الوجوه التي مرّت أكيداً عليّ، إذ الوجوه أميّزها جداً، وهي صورة عن أهلنا الأحبة في اليمن. أنصتُ بانتباهٍ كاملٍ لحديثهم مع بعضهم، لا أفهم أبداً ما يقولون، بيد أن إحساساً عارماً يتولّد في داخلك بأنك تعرف هذه اللغة، وشيءٌ ما يتحرك بنفسك؛ ثمة وشيجة تربطك بهؤلاء القوم، وهذا الإحساس لا يأتيك عندما تسمع أحدهم يتكلم بالفارسية أو الأوزبكية أو الروسية هناك، غير أن هؤلاء القوم الذين أمامي، عندما يتكلمون؛ تلتقط أذنك مفردات تشعر أنك تعرفها رغم عدم فهمك لها، وهذا الإحساس حصل معي في بلاد الحبشة، في منطقة بشمالها، حيث قومية “التغراي” هناك، وأتذكر أنني عدت للمصادر أبحث عن اللغة التي يتحدث بها أولئك القوم، لأكتشف أنها فرع من اللغة العربية الحميرية القديمة التي هاجر بها أجدادهم للحبشة بعد انهيار سدّ سبأ.
في هذه القرية القريبة من بخارى؛ طلبت من فتى عندهم أن يتكلم بما أشير به، فأضع سبابتي على الأنف، وأسأله: ما هذا؟ فيجيب: أنف. وهكذا يمضي معي في كل ما أشير له، يد.. رأس..عين..شعر، ينطقها نطقاً صحيحاً، بلغة عربية مفهومة، ولكن فيها بلعٌ للمفردة، وبالتأكيد تفهم تماماً ما يقول، وسجلت حواري مع الصبي في لقطات فديو نشرتها في تويتر، بيد أن الفتى عندما يتحدث مع لداته، يفلت الفهم منك، ولا تميّز ما يقولون، إلا من تلك المشاعر التي تحدثت آنفاً، والتي تنبجس مباشرة في داخلك، ما يدعوني هنا لتوجيه رسالة لجامعاتنا الكبيرة في السعودية بتخصيص أطروحات دكتوراه عدة، في الانثرلوجيا وعلم الاجتماع وتخصصي التاريخ واللغة العربية، تبحث عن أصول هؤلاء القوم، الذين خرجوا من الجزيرة العربية قبل أكثر من 1300 عام، وعن لغتهم العربية التي احتفظوا بها طيلة هذه المدة الطويلة، وكيف انتهوا لهذه اللغة التي أسمع، علماً أنه أثناء بحثي لكتابة المقالة وجدت دراسات -إبان الحقبة السوفيتية- تحدثت عنهم، وأيضاً كتب عنهم مجموعة من الرحّالة الغربيين، زاروا بخارى في القرن الثامن عشر، وكتبوا عنهم وطرائق معيشتهم وأحوالهم، وللأسف معظم تلك الدراسات غير مترجمة للعربية.
قال لي الرجل أنهم عرب أقحاح، وأن أجداده هاجروا لهذه البلاد من سنوات بعيدة، لا يعرف بالضبط متى، وأنهم عاشوا متحوصلين على أنفسهم، لا يتزوجون ولا يزّوجون أبداً من خارج عرقهم العربي طيلة القرون العديدة، وأن التعدد كان لديهم إلى عهد قريب، فضلاً عن كثير من العادات العربية القديمة التي احتفظوا بها، حتى إن مهنة معظمهم الرعي أو الزراعة، غير أنهم في السنوات الأخيرة انفتحوا رغماً عنهم، فأصابتهم العولمة التي دهمت وفتحت كل المجتمعات والاثنيات المنغلقة، فباتوا يزوّجون من خارج عرقيتهم، وينفتحون على العالم.
عندما تأملت في سحن أهل القرية، شعرت بأنهم يشبهون أهل اليمن، بل في بعضهم شيء من السمرة، يختلفون تماماً عن سحن القوميات الموجودة هنا في بخارى، وأكدّ لي احساسي بعد ذلك، أحد كبار وجهاء مدينة بخارى، ووجدت باحثين تكلموا عنهم، وقالوا بأن الهجرات العربية إلى دول آسيا الوسطى تعود إلى أيام قتيبة بن مسلم الباهلي، القائد الكبير الذي تدين له كل هذه البلاد بالإسلام، وتدين قبله بالطبع للحجاج بن يوسف الثقفي، الذي بعثه.
قتيبة بن مسلم عانى من هؤلاء القوم، حيث فتح هذه البلاد في العام 87 للهجرة، وكان معظمهم على دين الزرادشتية، وبمجرد أن يُخضعهم ويذهب؛ ينتفضون على الوالي الذي أمّره، ولثلاث مرات يفتح هذه البلاد بعد معاناة وينقلبون عليه، وانتهى ذلك القائد العظيم لحلٍّ سحري، وهو ما أبقى الإسلام هنا قوياً حاضراً عبر كل تلك القرون، فقد اهتدى بوجوب توطين عائلات عربية، سواء من جنده أو من القبائل العربية، وأمر أهل بخارى وسمرقند ومعظم المدن الكبيرة تلك، أن يخرجوا من بعض دورهم ليسكنها العرب هؤلاء، فيما البعض من الوافدين العرب سكن خارج المدن رغبة في مناطق الرعي، وبقي طيلة كل تلك السنوات في المهنة الأصلية التي يجيدونها وقتذاك، واستمرت معهم.
وفعلا، بهذه الطريقة، وعبر التعامل المباشر مع العرب، اقتنع أهل هذه البلاد وأسلموا بيقين وقناعة، وبقي الإسلام على مدى كل تلك القرون، وثمة هجرات عربية أتت أيام تيمورلنك في القرن الرابع عشر الميلادي، وهناك مقالة بديعة كتبها الباحث محمود الفلاحي ذكر فيها بعض تأريخهم هنا، وساق ما قاله أحد الرحالة الذين أشرت لهم قبلاً، واسمه “مندو روف” الذي اجتاز بخارى سنة 1820م، وتحدث عن العرب الذين شاهدهم، وقال بأنهم يعيشون في القرى التي تقع بعضها في ضواحي بخارى، وبعضهم من البدو الرحّل، وآخرون أنصاف رحّل، ومعظمهم مزارعون، ولهم مواش يرعونها في السهول، وهم الذين يجهّزون التجار بفراء الحمل المشهورة، وأن مجموع العرب في بخارى بحدود  50 ألفاً في ذلك التأريخ الذي زار.
 هناك باحث آخر اسمه “خانيكوف” كتب عن هؤلاء العرب في سنة 1843م، وقال بأن عددهم يزيد عن الطاجيك قليلاً، وأنهم مشتّتون في الاقسام الشمالية لأمارة الخانات، وأكثرهم يتجمّع في المناطق القريبة من سمرقند، وأنهم يعيشون عيشة البدو الرحّل، وقسم منهم يسكنون القرى والمدن لتعاطيهم التجارة، وأن ملامحهم تنمّ عن أصلهم العربي، كما أنهم يتكلمون العربية فيما بينهم.
 هناك رحالة مجري، اسمه “فان بيري”، وهو أول أوربي يجتاز صحراء “قره قوم”، وقد اجتازها متخفياً بزيّ الدراويش، وقد وصل بخارى سنة 1863م، بقصد دراسة المنطقة وسكانها؛ قام بوصف العرب في هذه المنطقة، وبيّن أنهم يبلغون نحو ستين ألفاً بذلك الوقت، علماً أنه في إحصاء رسمي في سنة 1926م كان عدد العرب حوالي 29 ألف نسمة.
 الكثيرون كتبوا ووصفوا العرب هؤلاء، ولكن للأسف الشديد معظم تلك الأبحاث والكتابات غير مترجم،  وجملة من الباحثين رأوا أن لهجات العرب في هذه المنطقة قريبة إلى اللهجة العراقية، وشخصياً لم أميّز ذلك، فأهل العراق هم أقوى وأفصح العرب إن تكلموا بالعربية الفصحى، ولست متضّلعاً بلغة أهل العراق العامية، سوى أنهم يقلبون القاف كافاً، أو الجيم ياءاً في المناطق القريبة من البصرة، مثل أهل الكويت، وما سمعته من لغة في هذه القرية؛ أجزم بأنه غير قريب من الدارجة العراقية، وأنا أتكلم كإعلامي غير متخصص بالطبع في اللغات، لأنه هناك عالماً سويدياً اسمه “ميو برغ” زارهم سنة 1930؛ كتب أن لهم لهجة عربية حيّة، قريبة الى اللهجة العراقية.
 سألت مضيفنا هناك في قرية “جوكاري” إن كان يزورهم العرب، فأجابني بالموافقة، وأن هناك من بنى لهم مسجداً من السعودية قبل عشرين عاماً، ولكنه مغلق، وتمنّى أن يفتح، وأتصوّر أنه مع الانفتاح الذي تعيشه جمهورية أوزبكستان خلال تولي الرئيس الحالي “شوكت مرزاييف”؛ سيتاح لهم ذلك، إذ موجة كبيرة من بناء المساجد شهدتها في جولتي هذه، وفي كافة المدن الأوزبكية التي زرتها، وسمعة الرئيس الحالي عالية لدى شعبه، لاعتداله وانفتاحه على العالم، واطلاقه الحريات، ورغبته في جعل أوزبكستان دولة اقتصادية كبيرة.
 بحقًّ؛ مدينة بخارى تزخر بالعجائب التي تجعل منك ذاهلاً من كثرة ما ترى من تأريخ يتحدث أمامك!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق