الأربعاء، 1 فبراير 2017

لا يزال كريموف أسير قلوب الملايين فى أوزبكستان


طشقند: 1/2/2017 أعدها للنشر أ.د. محمد البخاري. تحت عنوان "بالرغم من مرور 5 أشهر على رحيله لا يزال كريموف أسير قلوب الملايين فى أوزبكستان" نشرت جريدة "النهار" يوم 31/1/2017 مقالة كتبتها: هدى المصري، وجاء فيها:


تحيي جمهورية أوزبكستان الإسلامية هذه الأيام  ذكرى مرور 5 أشهر على وفاة زعيمها القومي ومؤسس دولتها الحديثة، إسلام كريموف الذى توفى مطلع سبتمبر الماضى عن عمر ناهز 78 عاما، والذي قاد بلاده من التفكك والتشرذم إلى الوحدة والاستقرار ومن الفقر إلى التقدم والازدهار، فاستحق عن جدارة واقتدار الاستحواذ على لقب الزعيم التاريخي.
فعلى الرغم من مرور 5 شهور على وفاته لا يزال كريموف اسير قلوب شعب  أوزبكستان الدولة ذات الثقل الأكبر ديموغرافياً وتاريخياً في آسيا الوسطى، والتى يدين أغلبية شعبها بالإسلام، عاصمتها طشقند، ومن أهم مدنها سمرقند، وبخارى، وخوارزم، والتى لها شهرة عريقة في تاريخ الإسلام، فقد قدمت هذه المدن علماء بارزين أثروا التراث الإسلامي بجهدهم، كان منهم (البخاري والخوارزمي والبيروني والنسائي والزمخشري والترمذي) وغيرهم العديد من أعلام التراث الإسلامي.
فلا يزال إسلام كريموف يحتفظ  بمكانة كبيرة لدى شعب أوزبكستان ورئيسها فهو  أعظم السياسيين فى عصرنا الحالى، والزعيم ثاقب النظر الذى تميز بالفكر الاستراتيجى ورؤية رجل الدولة لجوهر الأحداث بالغة التعقيد الجارية فى العالم والمنطقة، كما تمتع بالشعور الخاص بالمسؤولية الشخصية إزاء وطنه وشعبه، ومصير كل فرد ومواطن.
وفى كلمته أمام الجماهير  قال شوكت ميرزياييف الرئيس الحالى للبلاد بان كريموف كان أول رئيس لأوزبكستان وهو من وضع حجر الأساس للشروط الأساسية لفلسفة النهضة الوطنية لأوزبكستان، والتى تمثلت فى: السيادة السياسية والاستقلال الاقتصادى، والانفتاح على العالم الخارجى والحفاظ على الهوية الوطنية والقيم الروحية السامية، واحترام التاريخ الذاتى وانتهاج سياسة التسامح الدينى والثقافى. وكان المبدأ الذى أعلنه إسلام كريموف أن "من لا يتمتع بالذاكرة التاريخية فلا مستقبل له"، والذى صرح به في السنوات الأولى للاستقلال، قد أصبح دليلا هاما للعمل على إصلاح الحياة الروحية، وتنشئة ثقافة الذاكرة التاريخية، والتطلعات الخلاقة للشعب فى البلاد. 
واليوم، فإن الثروات المادية والفنية التى لا تُقدر بثمن وتتمتع بها أوزبكستان، والجذور العريقة لدولتها، وتقاليدها الروحية والأخلاقية، قد أصبحت تمثل بطاقة التعريف المميزة للبلد، والأساس لوضع سجلات التاريخ الحديث للدولة ذات السيادة. وتحتل مكانة خاصة فى التراث التاريخى الثرى للدولة الآثار المعمارية القائمة من العصور الغابرة، والتى تضم فى طياتها المعلومات المشفرة عبر القرون حول الأزمنة القديمة، ومعايير الجمال والنظرة إلى العالم، والمعايير الأخلاقية للشعب.
وليس من قبيل المصادفة قول المؤرخين أن الآثار المعمارية القديمة تنتج أكثر الانطباعات الشعورية سطوعا وجلاءً، وتقوم بتخزينها بشكل دائم داخل الوعى البشرى. وعند النظر بإدراك نحو خريطة العالم، فإن التصور حول أى بلد، كثيرا ما يرتبط بالروائع المعمارية للزمن الماضى، والتى تم الحفاظ عليها إلى أيامنا هذه.
على سبيل المثال فلو اتجهنا بأنظارنا نحو، الصين - سور الصين العظيم، مصر - الأهرامات الغامضة، اليونان - البارثينون الصارم الكلاسيكي ... أما أوزبكستان لدى وعى الناس من مختلف بلدان العالم فهى ترتبط بصورة رئيسة بالأضواء المنبعثة للقباب ذات اللون الفيروزى، المنسجم والممتزج مع اللون الأزرق اللانهائى للسماء الصافية التى تغطى منطقة رجستان في سمرقند، وبفرقة بوى كالون الموسيقية فى بخارى، وبالآثار القديمة لإيشان قلعة فى خوارزم، والروائع المعمارية فى طشقند وغيرها من مختلف نماذج العمارة القديمة.
لقد لعب إسلام كريموف دورا أساسيا في توطيد أركان أوزبكستان على طريق الاستقلال، وتجنيبها ويلات الثورات والحروب الأهلية الدموية. وتحت قيادته، وعبر وقت قصير تم تطوير مسار فريد من التنمية وبناء الدولة. كما أن تطبيق القواعد الأساسية للإصلاحات الاجتماعية والسياسية المدرجة فى المبادئ الخمسة لبناء الدولة الديمقراطية المستقلة، والتى تم الاعتراف بها الآن على نطاق واسع تحت عنوان "النموذج الأوزبكي"، تتمثل بادئ ذى بدء فى بعث الصحة الروحية لدى شعب أوزبكستان متعدد الجنسيات. وقد تم تحديد القضايا الاستراتيجية نحو إحياء التراث التاريخى والعلمى والثقافى الغنى والحفاظ عليه وترميمه. 
منذ السنوات الأولى لاستقلال أوزبكستان، مضت الخطوة اللاحقة فى الدرب الخلاق، متمثلة فى سياسة تشكيل الثقافة الاجتماعية الأيديولوجية القائمة على التمازج بين القيم الوطنية والعالمية. وصار هذا القرار التاريخى عن حق الذى اتخذ في بداية بسط سيادة بلادنا، يمثل جوهر عقيدة الاستقلال، والمنبع القوى للطاقة فى التنمية المستقبلية للدولة والمجتمع. وتتجسد فى هذه الفكرة أفضل النماذج والمثل العليا لماضى الشعب الأوزبكى، التى انصهرت بصورة عضوية مع القيم العامة المعترف فى حاضره وبالمهام المطروحة نحو مستقبله.
وعبر المذهب الذى يستند إلى الأيديولوجية - الأخلاقية لمضمون فكر الاستقلال، جرى استلهام التراث التاريخى الثرى لشعبنا، والأفكار الإنسانية للمفكرين العظام في العصور الكلاسيكية القديمة والعصور الوسطى للشرق، والاكتشافات العالمية لكل من الخوارزمى، والبيرونى، وابن سينا، وأولوغ بك وغيرهم من العلماء الموسوعيين فى عصر النهضة الشرقى، وفلسفة المجتمع المثالى والحاكم العادل للفارابى، ومبادئ بناء الدولة للأمير تيمور، والنظرة الفلسفية والأخلاقية للمفكر على شير نوائى.
منذ الأيام الأولى لاستقلال أوزبكستان، تم فى الحياة العامة والوعى المجتمعى استعادة التوقير والاحترم نحو القيم والتقاليد الأصيلة للسكان، والإنجازات الكبرى التى حققها الأسلاف العظام، ونحو آثار الثقافة المادية والفنية للماضى. وجرى وضع مجموعة من النصوص القانونية والتنظيمية في مجال التعليم وحماية واستخدام الآثار الثقافية المادية وغير المادية، وما يتصل بالمتاحف، وإقامة المناسبات التذكارية الخاصة بالمدن التاريخية والشخصيات الهامة للماضى العريق، وقد شكل كل هذا منظومة متميزة لتنشئة الذاكرة التاريخية باعتبارها عاملا من عوامل النهضة القومية وبناء المجتمع المدنى ذى النسيج الموحد.
كما اكتسبت قضايا حماية وترميم الآثار المعمارية والأماكن المقدسة اهتماما محوريا دائما لدى الرئيس الأول للبلاد. وعلاوة على ذلك، فطبقا لمبادرة إسلام كريموف، تم منذ الاستقلال إحياء مئات الروائع المعمارية التى شيدها المعماريون فى الماضى، وذلك بعد أن كانت أنقاضا، والتى تم إدراجها ضمن كنوز الحضارة العالمية. وتتضمن تلك الروائع ضريح عيسى الترمذى فى شيرآباد ومجموعة حكيم الترمذى في مقاطعة سورخانداريا، والجزء التاريخي المعماري لمحمية إيشان قلعة الطبيعية الواقعة فى منطقة خوارزم، والمنطقة التاريخية في مدينتى قارشي وشهريسابز، والمعالم الأثرية والمعمارية في آياز- قلعة، وقى قويقريلجان- قلعة، وتوبراك- قلعة - فى جمهورية قره قلباقستان. وجرى الانتهاء من الترميم الشامل للأبنية المعمارية وإعادة إعمار الحدائق الطبيعية في منطقة ضريح بهاء الدين النقشبندى، وترميم ضريح ومدرسة عبد الخالق الغيدوانى فى منطقة بخارى. كما تم على نطاق واسع إعادة الإعمار المعمارية وعلى مستوى المناظر الطبيعية لمجموعة النصب التذكارى للإمام البخارى، والترميم الشامل لضريح الأمير تيمور ومقبرة شاه زنده، والإحياء المعمارى لمسجد بيبى خانم الأسطورى في سمرقند، وغيرها من روائع العمارة فى مختلف أرجاء البلاد.
لقد اكتسبت اعترافا جديرا بها من قبل المجتمع الدولي تجربة أوزبكستان وإنجازاتها المتحققة فى مجال الإجراءات العملية على نطاق واسع للحفاظ على التراث التاريخى والكنوز القومية، وساهمت تلك التجربة فى التعزيز المستمر للمكانة العالية التى يتبوأها وطننا. ويتجلى الدليل الساطع على هذا الأمر فى – قيام المنظمة الإسلامية الدولية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) بإعلان طشقند عاصمة للثقافة الإسلامية في العالم لعام 2007، وإدراج المراكز التاريخية لمدن بخارى وسمرقند وخوارزم، وشهريسابز ضمن قائمة التراث العالمى لليونسكو.
وقد احتل مكانتهم كل من المحيط الثقافى لبيسون، وكذلك عيد النوروز، وشاشماك، وقطا أشولا، وأسكيا، وأنماط طهى أطباق البلوف، وتم إدراجهم ضمن القائمة الممثلة للروائع غير المادية للثقافة العالمية. وتحت رعاية تلك المنظمة الدولية الكبرى، يجرى تنظيم مهرجان الموسيقى الدولى التقليدى "أنغام الشرق"، والاحتفالات الخاصة بالمناسبات التذكارية للمدن القديمة والشخصيات التاريخية البارزة، فضلا عن عقد المؤتمر الدولي "التراث التاريخي لعلماء ومفكرى الشرق في العصور الوسطى، ودوره وأهميته للحضارة الحديثة".
يقولون أن لكل جيل وعصر ذاكرته الخاصة - التاريخ. واليوم، تمثل أوزبكستان الحديثة قاعدة راسخة للسلم والاستقرار فى آسيا الوسطى، ونموذجا للعديد من الدول فى المنطقة، بل وحتى فى العالم. وكان تطبيق السياسة التى انتهجتها أوزبكستان عبر السنوات الأولى للاستقلال طبقا لمبادرة إسلام كريموف فى إحياء القيم والتاريخ والتقاليد الوطنية، قد ترك تأثيرا هائلا على المناخ الروحى للمجتمع، وتشكيل الفكر التاريخى وتنشئة ثقافة الذاكرة التاريخية، وخاصة لجيل الشباب، كما أدى إلى نجاح الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
قال إسلام كريموف في كتابه "أوزبكستان على أعتاب القرن الحادى والعشرين: المخاطر المحيقة بالأمن وشروط وضمانات التقدم": - "نحن ننظر إلى عودة القيم الروحية باعتبارها عملية عضوية طبيعية لنمو الوعى الوطني، والعودة إلى المنابع الروحية للشعب، وإلى جذوره".  
لقد صار واقعا حقيقيا ملموسا النجاح المتحقق فى تنفيذ البرنامج العملاق لإحياء الآثار المعمارية الشاملة على كامل أراضىي البلاد تقريبا، وذلك بفضل المشاركة الواسعة لمختلف طبقات السكان في هذه القضية النبيلة. وخلال أعمال الترميم والبناء تجسدت بصورة مباشرة حيوية تلك التقاليد الشعبية الأصيلة المتمثلة في إنكار الذات، والتعاون المتبادل والتسامح. 
وقام الناس من أصحاب القوميات المختلفة بالمساهمة التطوعية لإحياء التراث الثقافى لشوارعهم، وقراهم ومدنهم ودولتهم ككل، بغض النظر عن الانتماء الاجتماعى والدينى، والعمر ومكان الإقامة، وذلك تلبية للنداء الروحى وانطلاقا من الوعى بالانتماء الشخصى إلى التاريخ العظيم للوطن الأم.   
وهكذا، وبفضل عمق التفكير الفلسفى والحنكة السياسية لإسلام كريموف، تم النجاح ليس فقط  فى استعادة الهوية الوطنية وتعزيز الوعى الوطنى، وتنشئة القيم الروحية السامية، بل أيضا تم دمج المواطنين فى العمل الإبداعى فى سبيل التقدم والازدهار للبلاد. وطبقا لاعتراف المجتمع الدولي بأسره، فهذا تحديدا هو ما ينبغى الإشارة إليه باعتباره أبرز إنجازات أوزبكستان المستقلة والفلسفة التى أكدت عليها الحياة للبعث القومى، التى كرس لها حياته الابن العظيم للشعب الأوزبكى إسلام كريموف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق