طشقند: أعدها للنشر أ.د. محمد البخاري. تحت
عنوان "المخطوطات العربية في روسيا .. قاعدة الاستعراب وخزانة التراث"
نشرت جريدة "البيان" يوم 6/12/2016 مقالة كتبها: معمر الفار،
وجاء فيها:
تشكل روسيا الاتحادية وبلدان رابطة
الدول المستقلة (الاتحاد السوفييتي سابقاً)، شاهداً حياً على تلاقي الحوارات
العميقة بين الشرق والغرب، من خلال أوراق صفراء عتيقة كتب فيها من الروائع النفيسة
الأدبية والعلمية والفلسفية والفنية ما بقي خالدًا حتى يومنا الحالي، إنها
المخطوطات العربية.
وربما يكون الاهتمام بالمخطوطات
نوعًا من محاولة النبش في السطور البالية المطموسة، بغية التعرف على الحياة
الماضية واستعادتها من جديد، بعد أن كانت مطمورة تحت الأرض أو في الصناديق المنسية
مئات السنين. ولكن في العموم، تزامن انبعاث الاهتمام الحقيقي في روسيا تجاه جمع
ودراسة آثار الكتاب العربية عملياً، مع تأسيس المعهد الآسيوي التابع لأكاديمية
العلوم في عام 1818. ويدل الاحتكاك القديم بين المسلمين والروس على عمق العلاقة
بينهم وهذا ما يفسر وجود مخطوطات عربية كثيرة في المتاحف الروسية.
من الأمور الغريبة أن الإسلام قد
دخل إلى روسيا قبل المسيحية بقرن كامل، حيث تدل الوثائق التاريخية على أن الإسلام
دخل إلى روسيا في القرن التاسع الميلادي، بينما لم تدخل المسيحية البلاد إلا في
القرن العاشر. وانتشرت المخطوطات العربية في مختلف أصقاع الأرض، ومن بينها الاتحاد
السوفيتي السابق الذي شغل المرتبة الرابعة في العالم بعد تركيا ومصر وإيران، بعدد
المخطوطات العربية الموجودة لديه.
ويمكن تعداد أكبر المراكز التي
تحوي آلافا من المخطوطات العربية في دول الاتحاد السوفييتي السابق: مؤسسات
الاستشراق ودور المخطوطات في سانت بطرسبورغ وموسكو والقوقاز وكازان في روسيا. كذلك
في أوزبكستان وأذربيجان، وطاجكستان وجورجيا وأرمينيا ودول أخرى.
وفي مكتبات ومعاهد بطرسبورغ تمتلئ
الخزائن العتيقة بكنوز الثقافة العربية، حيث تتلهف الأيادي لتلمسها بغية النهل من
ما بداخلها من معان وقيم فريدة عكست ثقافة العرب وتنوع إسهاماتهم، في الطب
والفلسفة والعلوم واللغة والجغرافيا والتاريخ وعلوم المنطق والفلك.
وتعد مكتبة كلية الدراسات الشرقية
بجامعة سانت بطرسبورغ من أقدم مكتبات الاستشراق في روسيا ورابطة الدول المستقلة.
وفيها تحفظ كنوز ثمينة من مخطوطات وعاديات ومؤلفات نادرة في علوم الشرق باللغات
الشرقية والأوروبية، وتغطي عصوراً تاريخية مختلفة.
وتشغل المؤلفات العربية لإسلامية
حيزاً كبيراً في خزائن المكتبة. كما تحظى مجاميع المخطوطات العربية لسانت بطرسبورغ
منذ أمد بعيد بشهرة دولية واسعة، لأنها أصبحت قاعدة أساسية للاستعراب والإسلاميات
الروسية لما قبل الثورة.
وبواسطة هذه المخطوطات العربية
أدخلت إلى الحياة العلمية مجموعة من آثار الطراز الأول للآداب العربية، وكونت
دراسات رائعة بالتاريخ السياسي والثقافي للعرب وشعوب الشرق الأخرى في منتصف القرن.
1930
اقتنى المتحف الآسيوي المخطوطات في
أسواق الكتب الشرقية والغربية، وحجز نسخاً من المخطوطات من مختلف مستودعات الكتب
الأخرى في العالم، ونظم البعثات الخاصة لجمع المخطوطات. واستمر المتحف في هذا
لأكثر من مائة عام، ليتحول فيما بعد، وبالذات في عام 1930، إلى معهد الاستشراق
التابع لأكاديمية العلوم، بينما اكتسب في عام 2007 اسم معهد المخطوطات الشرقية،
وهو يعتبر بالفعل المستودع المركزي للمخطوطات العربية والشرقية عموما في روسيا.
وأكسب كتاب الأكاديمي إيغناتي
كراتشكوفسكي: «على المخطوطات العربية. أوراق من ذكريات حول الناس والكتب»،
شهرة خاصة لمجموعات بطرسبورغ من المخطوطات العربية، وتمت إعادة طبع هذا الكتاب
مرات عديدة، وترجم إلى الكثير من اللغات الأجنبية. وتبلغ المحتويات العربية بمعهد
المخطوطات الشرقية حاليا حوالي خمسة آلاف مجلد، وتقريبا: أربعة آلاف مجموعة
مؤلفات، وبحدود 2.7 ألف مقطع، أي يصل إجمالي هذه المخطوطات إلى عشرة آلاف وسبعمائة
وحدة وَوصفِ. وتعكس المحتويات جميع فروع ومراحل تطور الكتابة العربية، سواء
الإسلامية أم المسيحية.
كنز تراثي
وتثير المخطوطات العربية المتعلقة
بعلم الفلك اهتمامًا خاصًا لدى الباحثين الروس، ومن أهم المخطوطات في المجال،
لعالم الفلك الفارسي كوشيار بن لبّان باللغة العربية، ذلك كعادة كافة
الكتّاب المسلمين في ذلك الزمان. واسم المخطوطة: مدخل إلى صناعة أحكام النجوم، وقد
كتبت عام 1130 ميلادية، حيث عرض فيها الكاتب أسس علم الفلك.
وإلى جانب وجود نسخ عديدة للقرآن
الكريم، نجد اهتماماً خاصاً بالمخطوطات الأدبية الإسلامية، ناهيك عن مخطوطة كتاب
«البستان في نزهات الندمان»، التي تتضمن حكماً وأمثالاً شعبية.
ارتباط
لو لم يكن هناك اهتمام بالمخطوطات
العربية، لما لقينا هذا الكم الهائل منها في المتاحف ودور الاستشراق والمكتبات في
كل أرجاء الاتحاد السوفييتي السابق.. وفي روسيا. إن سبب الاهتمام هذا لا يتوقف على
أن هذه المخطوطات هي عربية، بل يتعدى ذلك إلى أنها ترتبط بالعالم الإسلامي أيضاً،
وخصوصاً أن روسيا تلاقت وتجاورت مع المسلمين ودولهم على مر السنين، ذلك في حدودها
الجنوبية، بدءاً من آسيا الوسطى والقوقاز ومرورًا بإيران وانتهاء بتركيا.
عملياً، يمكن اعتبار النصف الأول
من القرن التاسع عشر في تاريخ العلم الروسي، عصر تشكل الاستعراب الرسمي في روسيا
والانفتاح على المؤلفات الفكرية العربية والإسلامية، وزيادة اهتمام المستعربين
الروس بالمرحلة الكلاسيكية للغة العربية وآدابها وتاريخ المجتمع العربي وثقافته.
كما شهدت هذه المرحلة نشاطاً ملحوظاً، وتميزت بجمع المخطوطات والكتب العربية
النادرة من مصادر مختلفة.
وقامت القنصليات والإرساليات
الروسية في الشرق الأدنى بدور كبير في اقتناء الآثار العربية والإسلامية المدونة
من بلدان الشرق الإسلامي، والتي تشكل اليوم، ثروة غنية في روسيا. وفي الربع الأخير
من القرن التاسع عشر، توسع الاهتمام في روسيا بلغة وآداب العرب وتاريخهم،
الأمر الذي انعكس على صفحات
الجرائد والمجلات والدوريات الثقافية والأكاديمية الروسية، وحينها نشرت مقالات
وتحقيقات عن مصر والعراق وسوريا وفلسطين وبلدان المغرب العربي.
وتدل مصادر الاستعراب الروسي، على
أنَّ أول ترجمة روسية لسيرة (عنترة) صدرت في روسيا عام (1833)، أعدها الكاتب
والمستشرق يوليان سينكوفسكي، وحينذاك كان ينشر باسم مستعار «البارون
برامبيوس». واعتباراً من عام 1840 أخذت المجلة الأدبية سيفيرنايا بتشيلا: «نحلة
الشمال» التي أصدرها سينكوفسكي، تعرف القراء الروس بانتظام على أفضل
إبداعات الأدب العربي. كما ترجمت عام 1863 معلقة الشاعر امرئ القيس إلى
اللغة الروسية.
وتأثر بها لاحقا الأديب الروسي
المعروف إيفان بونين الحاصل على جائزة نوبل للآداب، الذي نظم قصيدة بعنوان
«امرؤ القيس». ولديه أيضاً قصائد من وحي الآثار العربية والإسلامية.
ولاحقاً، في عام (1889)، صدرت ترجمة (كليلة ودمنة). ومنذ تلك الحقبة جذب
وباستمرار، إرث عصر الخلافة الإسلامية المتألق، انتباه المستشرقين بفضل ما بلغته
الآداب والعلوم والثقافة العربية الإسلامية من ازدهار رفيع.
تراث قيّم يستجدي عناية ممنهجة
أخيراً لا بد من القول إن
المخطوطات العربية في دول الاتحاد السوفييتي السابق، وفي روسيا على وجه الخصوص،
تعد بعشرات الآلاف وهي تتعرض مع مرور الوقت وتعاقب السنين، إلى التلف، وكثير منها
لا يزال بعيداً عن الدراسة والتحقيق. وفي ذاكرة تلك المخطوطات نسيج دافئ وصورة
خلابة لتراث عظيم انتشر في كافة أنحاء العالم وفي الاتحاد السوفييتي السابق بشكل
خاص.
مركز جمعة الماجد.. جهود نوعية
ونجاحات عالمية
يمثل جمعة الماجد بفكره
وتوجهاته، وبما يرصده من جهود وإمكانات علمية وبحثية ومادية، للمخطوطات العربية
والإسلامية في أي من بقاع الأرض، قيمة وثروة فكرية تستحق التنويه والإشادة. ولافت
في الصدد، طبيعة المشروعات والأعمال البحثية المتخصصة التي يتبناها جمعة الماجد
للثقافة والتراث، بالتعاون مع مراكز الاستشراق والمؤسسات الروسية المتخصصة، غاية
توثيق وصون المخطوطات العربية.. وحفظ المصادر عن تاريخ الجزيرة العربية ودول
الخليج العربي والعالمين العربي والإسلامي، وذلك بناء على التعاون القائم بين
المركز ومعهد الدراسات الشرقية المجمع العلمي الروسي -فرع بطرسبورغ.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه لطالما
افتخر الروس بالخوارزمي وابن سينا والبيروني والفارابي
وغيرهم ممن عاشوا على أراضيهم، ومما يعزز ذلك وجود آثار ومخطوطات وكتابات، لا
بلغات روسيا فحسب، بل بالعربية.
إن المخطوطات في الأغلب تسوق أقدار
الناس على نحو غير متوقع، وتوجههم حسب إرادتها ورغبتها، ومن الصعب جدا على الإنسان
الذي تعايش مع تلك المخطوطات أن يخرج من تحت سلطانها.
*****
تنويه للمعد: مع إحترامي لجهود كاتب المقال إلا أنه يجب التنويه أن جمع
المخطوطات الإسلامية والعربية في روسيا مرتبط بإجتياح قوات الإمبراطورية الروسية
للمناطق الإسلامية في القوقاز، وقازان، وآسيا الوسطى، حيث تم على مراحل الإستيلاء
أو مصادرة ومن ثم نقل المخطوطات الإسلامية والعربية إلى سانت بطرسبورغ، ومن بينها كانت
النسخة الأصلية والوحيدة لمصحف عثمان بن عفان عليه السلام التي أعيدت في
العهد السوفييتي إلى أوزبكستان ولم تزل محفوظة في مكتبة الإدارة الدينية لمسلمي
أوزبكستان بطشقند حتى اليوم.
أما ما اشار إليه الكاتب
من "أنه لطالما افتخر الروس بالخوارزمي
وابن سينا والبيروني والفارابي وغيرهم ممن عاشوا على
أراضيهم، ومما يعزز ذلك وجود آثار ومخطوطات وكتابات، لا بلغات روسيا فحسب، بل
بالعربية" فأود الإشارة إلى أن المراجع التاريخية لم تشر أبداً إلى أن هؤلاء
العلماء الكبار عاشوا على الأراضي الروسية، ولم تشر حتى إلى أنهم زاوروها خلال
حياتهم، بل أشارت إلى أنهم ولدوا وعاشوا وابدعوا على أراضي ماوراء النهر وخاصة أوزبكستان وفي بعض المناطق
الإسلامية الأخرى. ولهذا اقتضى التنويه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق