تحت عنوان "الاحتساب على الأفكار والأفئدة...!" نشرت جريدة الرياض يوم 13/6/2015 مقالة كتبها: يوسف
بن عبد العزيز أبا الخيل، وجاء فيها:
يوسف
بن عبد العزيز أبا الخيل
عنوان هذا المقال ليس
من بنات أفكاري، بل إنه عنوان لأحد فصول كتاب (دوامات التدين) للدكتور (يوسف
زيدان)، والذي يقول فيه، بعد أن استعرض وقائع وحوادث لأئمة كبار، أُمْتُحِنوا
وأوذوا من قبل عوام ومقلدي زمانهم، :"إذن هو أسلوب قديم وجديد في الآن ذاته،
فهذا الشخص الموتور يختلف مع مفكر أو أديب أو مجتهد في أمر من أمور الدين، فيزعق
على الملأ بأنه كافر أو هرطوقي أو شيعي أو شيوعي، أو أي أمر مكروه، فيسمع العوام
زعيقه وينساقون وراءه، فيفتكون بالضحية، بينما الجاني الذي يلبس مسوح البراءة
والدفاع عن العقيدة وإعلاء كلمة الرب والدفاع عن الإيمان يظل متواريًا حتى تقع
المأساة التي سوف يسميها، بعد وقوع الويلات، بأسماء وعناوين من مثل: الجزاء العادل
من السماء، نصرة الرب للمظلومين، العدالة الإلهية، انتصار الحق في النهاية".
والعجيب أن أسلوب
الاحتساب على أفئدة الناس وأفكارهم، ومن ثم تكفيرهم وحتى قتلهم، ظل واحداً لا يتغير
إلا في الوسائل المادية ربما. إنه ذلك الأسلوب المغلف بتقويل المخالف ما لم يقله،
بحمل كلامه على ما لم يُرِدْه، أو بانتزاع فقرة أو فقرات قالها في كتاب أو في
مقالة، من سياقها اللغوي، ثم محاكمته لمنطوقها، أو مفهومها مقطوعاً من سياقها، أو
بدس أحد الأتباع لكي يحرجه بسؤال ملغوم أمام حشد من الناس. وإن عُدمت كل هذه
الوسائل، فلن يكون عسيراً عليهم أن يكذبوا عليه، ذلك أن الكذب يظل في عرفهم
جائزاً، وأحياناً واجباً لنصرة "الدين"!
تاريخنا مليء بضحايا
المحتسبين على الأفكار والأفئدة، ومن بينهم أئمة كبار، أُوقِعَ بهم بمثل تلك
الوسائل "الاحتسابية"، فشُغب عليهم بسببها، وعانوا في حياتهم، حتى تمنى
بعضهم الموت من جراء ما حصل له من منغصات اجتماعية وسياسية. فهذا الإمام البخاري
صاحب "الجامع المسند الصحيح" الذي غادر بلده: "بخارى" في
أوزبكستان، ليطوف بلاد العالم الإسلامي شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً بحثًا عن
الحديث الذي جمعه خلال ستة عشر عاماً من ست مئة ألف حديث، عانى الأمّرين من عوام
ومقلدي زمانه بسبب مقولة ربما لم يفهموا معناها من الأساس، أو أنهم فهموها وأرادوا
الإيقاع به عن طريق قلب معناها، تلكم هي مقولة: "الحروف التي نكتب بها القرآن،
وألفاظنا التي نقرأه بها مخلوقة، وأما القرآن نفسه بمعانيه فهو منزل غير
مخلوق". لم يفهم، أو لم يرد أن يفهم، عوام ومقلدو زمن البخاري، المدفوعون من
قبل فقهاء حساد، من هذه المقولة إلا أنها تعني أن القرآن مخلوق، فكان أن ضللوه
بسببها وزندقوه، بل وكفروه، ثم طاردوه من بلد إلى بلد آخر، بصفته زنديقاً ضالاً لا
تجوز مساكنته. طردوه أولاً من نيسابور إلى بلدته الأصلية: بخارى، ثم طرده أهل
بخارى، بناء على وشاية من بعض فقهاء نيسابور، ثم توجه إلى سمرقند فمنعه أهلها من
دخولها، ومن هناك توجه إلى الله أن يقبض روحه فمات على الحدود بين سمرقند وبخارى.
تاريخنا مليء بضحايا
المحتسبين على الأفكار والأفئدة، ومن بينهم أئمة كبار، أُوقِعَ بهم بمثل تلك
الوسائل «الاحتسابية»، فشُغب عليهم بسببها، وعانوا في حياتهم، حتى تمنى بعضهم
الموت من جراء ما حصل له من منغصات اجتماعية وسياسية
وبالمثل، لم يحتمل عوام الحنابلة من الإمام
الطبري رده لتفسير قوله تعالى "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً"، بأنها
تعني أن الله يجلس النبي محمداً معه على العرش، حيث فسرها الطبري، بإثبات شفاعته
يوم القيامة. كما لم يحتملوا منه أيضًا وصفه للإمام أحمد بأنه محدث وليس بفقيه، إذ
فهموا أن وصفه بالمحدث تبخيس من قدره، فشغبوا عليه في الجامع، ورموه بمحابرهم،
وكانت يومئذ كثيرة، فهرب إلى داره فحصبوا داره حتى كان على بابها كالتل العظيم من
الحجارة، وحكموا عليه بالإقامة الجبرية، ومنعوا الناس من زيارته حتى مات في داره.
ولم يكتفوا بذلك، بل رفضوا أن يدفن نهاراً، لأن الرعاع منهم، كما هي عبارة ابن
كثير، اتهموه بالرفض والإلحاد. وهي تهمة جعلت الوزير (علي بن عيسى) يقسم بقوله:
"والله لو سئل هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه". قلت: وهذا يشبه
ما يتهم به عوامنا المعاصرون مخالفيهم بأنهم علمانيون وليبراليون، ولو سئلوا عن
معنى العلمانية والليبرالية لما عرفوا.
وللصوفي المعروف (الحسين بن منصور الحلاج) قصة
مع عوام زمنه تستحق أن تروى. فلقد استعرض الدكتور يوسف زيدان، في كتابه آنف الذكر،
المحنة التي تعرض لها، فأورد عدداً من التهم التي وجهت إليه، نقلاً عن الذهبي في
(السير)، ومنها: (الكفر، ممارسة السحر، الزندقة، الشعوذة، التشيع، ادعاء النبوة،
ادعاء تناسخ الأرواح، ادعاء الألوهية، الجنون، الحلولية، التآمر على السلطة، النصب
والاحتيال، محاولة الزنا بالمحارم، هدم أركان الدين)، ثم علق قائلاً: "لا
أعرف حقا ًإن كنت قد نسيتُ أو غفلتُ عن بعض الدواهي الأخرى التي أُتُّهِمَ الحلاج
بها، ولكني أعرف يقيناً أن هذه التهم لا يمكن أن تصدق كلها على شخص واحد، حتى لو
كان الشيطان نفسه".
تولى الوزير العباسي (حامد بن العباس) مهمة
محاكمة الحلاج انطلاقا من دوافع سياسية بحتة. ولم يتوان عن الاستعانة ببعض الفقهاء
للتقليب في دفاتر الحلاج وكتبه ومذكراته لعله يظفر بشيء يدينه، فيلف حبل المشنقة
على رقبته، وهو ما كان يحتال له، ويتحين الفرصة. ومن جملة ما اُتُّهِمَ به أنه قد
ادعى أنه المهدي المنتظر، وأنه الناموس الأكبر، وأخيراً أنه الله وحده، إلا أن
شيئاً من ذلك مكتوباً بخطه لم يجدوه. وبرغم الجهود التي بذلها هذا الوزير، بمساعدة
بعض الفقهاء في العثور على ما يدين الحلاج من كتبه، إلا أنهم لم يظفروا بشيء.
وأخيرا جاء الفرج، فلقد وجد المحتسبون المكلفون بالتنقيب عن سقطات الحلاج، أنه كتب
كلاماً يقول: إذا عجز الإنسان عن الذهاب إلى الحج، فليعمد إلى موضع في بيته فيطهره
ويجعل له محراباً، ثم يغتسل ويحرم ويطوف سبعة أشواط فتحتسب له حجة. فكأنما نزلت
هذه العبارة عليهم من السماء! ولما ووجه بها الحلاج قال لهم: "لقد وجدتها في
كتاب (الإخلاص) للحسن البصري"، بمعنى أنه لا يؤمن بها، لكن أحد الفقهاء
المكلفين بالتنقيب عن سقطاته، ويكنى أبا عمر، صاح فرحاً: كذبت يا حلال الدم، هذه
زندقة يجب بها القتل.
وبرغم أن بعض الفقهاء الحاضرين اعترض على
إدانته ما لم يقر هو شخصياً، أي الحلاج، بإيمانه بمضمون الكلام، من منطلق أن (ناقل
الكفر ليس بكافر)، إلا أن الوزير أخذ توقيعات فقهائه على إدانته واستحقاقه للقتل،
فقتله شر قتلة، بعد أن ضربه أولاً ألف سوط، ثم رفعه على الصليب فقطع يديه ورجليه،
وفصل رأسه عن جسده، وأمر بإحراق جثته ورمي رمادها من على منارة المسجد.
أما ابن رشد الحفيد، فيلسوف قرطبة وقاضي
قضاتها، فإن المحتسبين على الأفكار والأفئدة، لمّا لم يجدوا في كتبه ما يدينه
شرعاً، عمدوا إلى عبارة في أحد كتبه فانتزعوها من سياقها اللغوي، وهي قوله:"
فلقد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة"، ووشوا به إلى الخليفة بحجة أنه يرى تعدد
الآلهة(...)، مع أنه نقل هذه العبارة عن أحد فلاسفة الإغريق، فكان ما كان من نكبة
هذا الفيلسوف الفقيه الأصولي!
إن الاحتساب على الأفكار والأفئدة لَمِمَّا
يعيق تقدم المجتمعات، لأنه يخنق الأنفاس، فلا يسمح للرأي الآخر، بصفته نقداً
للأوضاع السائدة، بأن يظهر.
ولقد تستبين مركزية الرأي الآخر في مسيرة تقدم
المجتمعات عندما تطلع على عيوبها ونواقصها بفضله، فتصلح تلك العيوب والنواقص،
فتظهر عيوب ونواقص أخرى فيتصدى لها النقد من جديد. وهكذا هو الديالكتيك الذي يبرز
الفكرة ونقيضها، ثم المركب منها كفكرة جديدة، فنقيضها والمركب منها وهكذا دواليك.
وهذه العملية التي هي أساس تقدم التاريخ من
خلال تقدم العقل نحو الروح المطلق، لا يمكن أن توجد في بيئة تخنق الرأي الآخر:
الرأي الناقد الفاحص.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
لمراسلة الكاتب: yabalkheil@alriyadh.net
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق