الماتريدية وآثارها في الفكر الإنساني بدول طريق الحرير.. الصين نموذجًا
طشقند 2/12/2019 أعدها للنشر أ.د. محمد البخاري.
تحت عنوان "الماتريدية وآثارها في الفكر
الإنساني بدول طريق الحرير.. الصين نموذجًا" نشرت محلة الفيصل/الرياض
(المملكة العربية السعودية)، يوم 1/9/2019 مقالة كتبها يون تسون بينغ - باحث صيني وترجمها وأعدها: مصطفى شعبان - باحث
مصري، في زاوية تراث،
جاء فيها:
لا خلاف بين الباحثين
في أن العصر الذي شبَّ فيه أبو منصور الماتريدي أزهى العصور الإسلامية، وغير خاف
أن الإسهام الحضاري لآسيا الوسطى أو بلاد ما وراء النهر كان عظيمًا، فقد شبَّ على
هذه الأرض أمير المؤمنين في الحديث محمد بن إسماعيل البخاري (ت: 256هـ/ 869م) نسبة
إلى بخارى عاصمة الإقليم يومئذٍ، ومسلم بن الحجاج النيسابوري (261هـ/ 875م)، نسبة
إلى نيسابور.
وهكذا نجد من العلماء
والفلاسفة والمتصوفة والأدباء المنتسبين إلى هذه الأرض من يستعصي على العَدِّ
والحصر؛ كالفارابي، والسمرقندي، والشاشي، والبلخي، والبيهقي، والترمذي، والمروزي،
والنسفي، والبزدوي.. وقد كان لهم إسهام في كل فن من فنون العلم، مما كان له تأثير
مباشر أو غير مباشر على أبي منصور الماتريدي(1).
ولعلماء الصين
إسهامات بارزة في مجال الفكر الإنساني والفلسفة الإسلامية؛ إذ يُعدُّون امتدادًا
واسعًا لإسناد علماء الماتريدية المتصل في العالم الإسلامي عمومًا، وفي أقطار
خارطة الحزام والطريق التاريخية خصوصًا؛ بصفة أن الصين هي منبع امتداد طريق الحرير
التاريخي القديم، وفي مقالنا هذا سنجلِّي عن أبرز علماء الماتريدية في الصين، وعن
إسهاماتهم في الفكر الإنساني بحثًا وتنظيرًا وتأليفًا، مع إلماحة بسيطة إلى نظرية
الخلق والكون من وجهة نظر ماتريدية الصين.
نشأة الفكر الإنساني الإسلامي في الصين وتطوره
دخل الإسلام الصين
منذ القرن السابع الميلادي(2)، وانتشر في أنحائها المختلفة عبر عدة قرون بفضل
التجار والمهاجرين المسلمين الحاملين على عاتقهم الدعوة الإسلامية من العرب والفرس
ووسط آسيا. والصين يقطن فيها عدد كبير من السكان، وبها دياناتها وفلسفاتها الأصيلة
والعريقة، ولأهلها تقاليد وعادات خاصة تحوطهم ثقافيًّا كما حاطتهم سياسيًّا تلك
الأسوار الطويلة المشهورة بحيث أصبح من الصعب جدًّا أن تتسرب إليهم أفكار الآخرين
فيقبلوها.
ورغم ذلك فإن التجارة
من طبيعتها أن تفتح الباب للثقافات حتى تتسرب بفضلها من رجل إلى رجل ومن بلد إلى
بلد. إضافة إلى ذلك فإن أخلاق التجار والمهاجرين المسلمين ومكانتهم العلمية وبخاصة
في علم الهيئة(3) قد جعلتهم محبوبين لدى أصحاب البلد، فضلًا عن أن كثيرًا من أفكار
دينهم يتوافق مع الأفكار الصينية. وقد استطاع المسلمون بأخلاقهم ومكانتهم العلمية
وتجارتهم وغير ذلك فتح نافذة في أسوار الصين الفكرية؛ لنشر الإسلام من خلالها.
وفي بداية الأمر كان
الإسلام في الصين ينتشر انتشارًا محدودًا؛ لضيق تلك النافذة، فكان ينتقل من جيل
إلى جيل داخل دوائر المسلمين وراثة وتقليدًا، ولم يكن له تأثير كبير خارجها، وكان
المسلمون يستعملون اللغتين العربية والفارسية فيما بينهم للمعاملة والتعليم، ومع
مرور الزمن فقدت هاتان اللغتان دورهما في حياة المسلمين اليومية، وأصبحت دائرتهما
محصورة في المساجد ولدى الأئمة المسؤولين عن التعليم الديني فقط.
وفي تلك الأحوال ظل
الإسلام غير مفهوم عند غير المسلمين فلم ينظروا إليه إلا على أنه مجموعة من الطقوس
والعادات القومية فقط، أو لون من الخرافات التي تضل الناس. وكذلك أصبح من العسير
عند عامة المسلمين أن يحافظوا على مفهوم الإسلام الصحيح، حيث حلت اللغة الصينية
المحلية محل اللغتين العربية والفارسية؛ لعدم رواجهما بعد ردح من الزمن كانتا فيه
لغة أسلافهم اليومية، وبدأت الصعوبات والمشاكل تظهر عندهم في فهم الإسلام؛ لطمس
معالم الفطرة الإسلامية في أنفسهم، وكذلك في حياتهم اليومية؛ بسبب التهم الموجهة
إلى دينهم من الآخرين الذين لا يفهمون الإسلام.
ولمواجهة هذه
الصعوبات والشبهات نهض عدد من العلماء المسلمين المفكرين في الصين وأخذوا على
عاتقهم مسؤولية تذليلها، فضلًا عن مسؤولية تبليغ الإسلام والدعوة إليه؛ فبينوا
تعاليمه للناس باللغة الصينية المحلية ترجمة وتأليفًا، منطلقين من القرآن والسنة،
ومستلهمين المصادر والمراجع العربية والفارسية المتوافرة لديهم في العلوم
الإسلامية، وكما قاموا بشرح جوانب الإسلام في محاولات للتقريب بينه وبين الديانات
والفلسفات الموجودة في الصين، مقتبسين من مصطلحاتها ونظرياتها، ونتيجة لهذه
المحاولات ظهرت فلسفة إسلامية لها طابع صيني على أرض الصين، ولا تقل أهمية عن
الفلسفة الإسلامية بصفة عامة.
ومن خلال هذه
الملاحظات يتبين لنا أن الفلسفة الإسلامية في الصين قد نشأت تحت مؤثرات عديدة،
أهمها القرآن والسنة، وكتب علماء المسلمين في الفلسفة الإسلامية -علم الكلام
والفلسفة والتصوف- بصفة عامة.
أبرز علماء الماتريدية الصينيين وأهم مؤلفاتهم
إن من أبرز علماء
الصين المسلمين في الفكر الإنساني الإسلامي الماتريديين معتقدًا هم الأربعة
المشهورون بشيوخ الإسلام الأربعة، الماهرين في الديانات الأربع(4) في الصين، وقد
لعبوا دورًا كبيرًا في الدفاع عن العقيدة الإسلامية ونشر حقائقها بين أهل الصين.
وقد بدأت الفلسفة
الإسلامية الصينية وتطورت ونضجت على أيديهم من خلال تأليفاتهم لإثبات حقية
الإسلام، ونقد ما في الديانات والفلسفات الأخرى إضافة إلى مساهمات غيرهم من علماء
المسلمين.
وهم:
الشيخ داود «وَان دَي
يُوي».
الشيخ صالح «لِيُو
دِيَ لِيَان».
الشيخ يوسف «مَا
جُو».
الشيخ روح الدين يوسف
«مَا فُو تِشُو».
وكانوا ينتمون إلى
المدرسة الدينية التي أسسها الشيخ محمد عبدالله إلياس «خُو ديونغ جِيو(5)» رحمه
الله تعالى، الذي ابتكر أسلوب التعليم الديني المشهور بـ«دين تان يوى» -وهو عبارة
عن تعليم العلوم الإسلامية باللغة الصينية ترجمة شفوية- في أواخر القرن السادس عشر
الميلادي، وما زالت المدارس الدينية في الصين على منوالها حتى الآن، وطبعًا له
الفضل الأول في وضع اللبنة الأولى للفلسفة الإسلامية الصينية، غير أنه لم يترك لنا
أي كتاب في الفلسفة(6).
فلنعطِ للقارئ نبذة
عن حياة الأربعة المذكورين، حتى تكون لديه معلومات خلفية لفهم آرائهم الفلسفية.
1. الشيخ داود «وَان دَي يُوي»
هو من أشهر علماء
الصين المسلمين، واسمه داود «وَان دَي يُوي (Wang Dai Yu)»، ولد الشيخ داود نحو سنة 1585م،
في «نان كين» من أسرة «وان» الإسلامية، ودرس العلوم الإسلامية منذ صغره في المدرسة
الدينية باللغتين العربية والفارسية على يد العالم «ما ديون شي» النانكيني المنتمي
إلى مدرسة الشيخ عبدالله إلياس الدينية(7).
ثم تفرغ للتأليف
والترجمة باللغة الصينية بيانًا للإسلام من خلال الديانات والفلسفات الصينية،
محاولًا التوفيق بينه وبينها هادفًا إلى تقريب الإسلام إلى أهلها، ونقدًا لأخطاء
الديانات والفلسفات الصينية، وتصحيحًا لتصورات الآخرين المخطئة للإسلام وبعض أفكار
عوام المسلمين المنحرفة عن الإسلام. وترك لنا ثلاثة مؤلفات قيمة باللغة الصينية،
وهي:
كتاب شرح الحق لدين الحق
هو أول كتاب له، قد
عرض فيه الإسلام عرضًا شاملًا من حيث العقيدة والشريعة والأخلاق، مستلهمًا من
القرآن والسنة والكتب الإسلامية في علم الكلام والتصوف والفلسفة والفقه، وشارحًا
للإسلام من خلال الديانات والفلسفات الصينية بعد المناقشات والمحاورات الحاسمة مع
أصحابها، وبخاصة الكنفوشيوسية لنهضتها وسيطرتها في ذلك الوقت. ولهذا الكتاب مكانة
كبيرة لدى المسلمين وغيرهم، لبكورته في الموضوع، وبراعته في الأسلوب ودقته في
العرض. وقد طُبِع بأساليب الطباعة القديمة لأول مرة في نانكين سنة 1642م ثم أعيدت
الطبعة مرات في أماكن مختلفة.
كتاب المعرفة الإسلامية الكبرى
وهو كتاب غامض ممزوج
بالفلسفة وعلم الكلام والتصوف، بُنِيَتْ تفاصيله على الحديث عن نظرية الوجود
ونظرية الكون ونظرية المعرفة، هادِفًا إلى معرفة الله تعالى وتوحيده. وهذا الكتاب
باستقراء المكتبات طبعته الأولى مفقودة، لا نعرف عنها شيئًا، وطبعاته المتداولة
الآن هي الطبعة التي أشرف عليها الشيخ «مَا فُو سِيَان»(8)، والطبعات الأخرى طبعت
في أماكن مختلفة.
كتاب الجواب الحق لمن يريد الحق
هذا الكتاب عبارة عن
سجل لمجادلات الشيخ ومحاوراته مع أصحاب الديانات الأخرى حول العقيدة الماتريدية
والشريعة وغيرها، واهتم بجمعها أحد تلامذته «وو ليان تشنغ». وطبع هذا الكتاب
بطبعات مختلفة، وأحدثها طباعة وتحقيقًا هي طبعة دار الطباعة الشعبية بمدينة
«نينسيا»، وهذه الطبعة جامعة للكتب الثلاثة المذكورة للشيخ مع الشروح.
وقد توفي الشيخ نحو
سنة 1658م في مدينة بكين التي انتقل إليها مضطرًّا للظروف الانقلابية السياسية في
«نانكين» وعدم الأمن فيها، ودفن هناك وما زال قبره موجودًا ومحفوظًا(9).
2. الشيخ يوسف «مَا جُو»
اسمه يوسف «مَا جُو»
-رحمه الله تعالى- من شيوخ الإسلام المشهورين، ولد بمدينة «بوشان» في مقاطعة
«يوننان» سنة 1640م، من أسرة إسلامية عريقة، منتمية إلى شمس الدين عمر بن محمود
البخاري الذي ينتمي نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد توفي أبوه وهو
ابن سبع سنوات، فنشأ تحت رعاية جده ثم أمه التي كانت تكتسب بالغزل وحرفة النسيج
والزراعة بعد وفاة جده، وقد درس الكتب الدينية والفلسفية الصينية قبل الثلاثين من
عمره، ثم درس العلوم الإسلامية باللغتين العربية والفارسية بعد ذلك حتى تبحر في
العلوم المختلفة.
وترك لنا عدة مؤلفات
ولكن لم يصل إلينا إلا كتابه «الهداية الإسلامية» فقط وهو باللغة الصينية، وكتاب
الهداية الإسلامية كتاب موسوعي تناول الإسلام من جوانبه المختلفة تاريخًا وعقيدة
وشريعة وأخلاقًا بأسلوب مقارن وناقد، بهدف إبطال الباطل وإثبات الحق، وإقماع البدع
المنتشرة لدى بعض الصوفيين في ذلك الوقت، وقد ذكر في مقدمة هذا الكتاب كتاب شرح
الحق لدين الحق للشيخ داود ومدحه، ولا يخفى أنه استفاد منه. وقد توفي نحو سنة
1711م(10).
3. الشيخ صالح «ليُو ِدَى لِيان»
وهو من شيوخ الإسلام
الأربعة المشهورين بالصين، واسمه صالح «ليو دي ليان» المشهور باسم «لِيُو جِي»،
وكان مولده نحو سنة 1655م، من أسرة مسلمة ملتزمة في «نانكين»، وأبوه «ليو سَان
دِي»، أحد علماء المسلمين في الصين.
وقد تربى على يد أبيه
منذ صغره، متلقيًا منه العلوم الإسلامية باللغتين العربية والفارسية، كما درس
الكتب الدينية والفلسفية الصينية والغربية.
وله مؤلفات في مجالات
مختلفة، ومن أشهرها كتاب «اللطائف الإسلامية» وهو باللغة الصينية(11)، وهذا الكتاب
تناول قضايا الفلسفة الإسلامية بما فيها من علم الكلام والتصوف وغيره، وقد ألفه
محاولًا عرض الإسلام بأسلوب توفيقي ونقدي بين الإسلام والديانات والفلسفات
الصينية، مستلهمًا من الكتب الفلسفية والصوفية والكلامية لعلماء المسلمين
السابقين، ومقتبسًا من مصطلحات الكتب الدينية والفلسفية الصينية والغربية
المتوافرة في وقته.
ومن أشهرها أيضًا
كتاب آخر بعنوان «الشريعة الإسلامية» وهو باللغة الصينية، ويتناول قضايا الشريعة
الإسلامية كما يدل اسم الكتاب، وقد عرضها فيه بأسلوب مقارن من خلال المباحث التي
تشتمل عليها الشرائع الصينية. وقد توفي نحو سنة 1745م ودفن بـ«نانكين»(12).
4. روح الدين يوسف «مَا فُو تِشُو»
هو روح الدين يوسف
«مافوتشو»، ولد سنة 1794م من أسرة مسلمة عامرة بالعلم بمدينة «دَالي» في مقاطعة
«يون نان»، وقد درس الكتب الإسلامية باللغتين العربية والفارسية على يد أبيه منذ
صغره، ثم على يد الشيخ «جو ليان ديون» المنتمي إلى المدرسة التي أسسها الشيخ إلياس
في الجيل الرابع.
وقد تلقى العلم على
يده عدد كثير من أبناء المسلمين، وأصبحوا علماء مشهورين فيما بعد، كما تفرغ
للتأليف والترجمة للعلوم الإسلامية في حياته، وترك لنا مؤلفات كثيرة في مجالات
مختلفة من الصرف والنحو وعلم الكلام والتصوف وغيره.
ومن أهم مؤلفاته في
مجال العقيدة الماتريدية كتاب «الجامع المختصر للمبادئ الأربعة» وهو باللغة
الصينية، وقد عرض فيه العقيدة الإسلامية ومسائل الصلاة ومسائل الإيمان بالغيب،
وبيان البدع في الدين وأسباب ظهورها ونشأتها. وكتاب شرح المرابط، وكتاب محكمة
التفصيل، وكتاب الفصوص، وكتاب قصة آدم باللغة العربية.
وقد توفي شهيدًا على
يدي إمبراطورية الصين تحت سيادة أسرة «تنغ» سنة 1874م(13).
إسهام علماء الماتريدية الصينيين في نظرية الخلق والكون
ورث علماء الصين
المسلمين نظرية الخلق عن علماء العالم الإسلامي، حيث وجدوا فيها ما يمكن التوفيق
بينه وبين نظرية الخلق في الفلسفات الصينية، فطوروها وحاولوا التوفيق بينها وبين
نظرية الخلق في الفلسفات الصينية، وهكذا تكونت نظريتهم في الخلق.
فالخلق من وجهة النظر
الماتريدية الصينية خلق دائري على مراتب مختلفة من حيث التنازل والتصاعد، وهو يبدأ
من الله تعالى ويمر بعالم الملكوت وينتهي بعالم الملك.
وكان الله تعالى ولم
يكن شيءٌ معه، وهو الأول بلا ابتداء له. فنقطة البدء للخلق هو الله تعالى، فأولية
الله تعالى -إن صح التعبير- تفهم عند علماء الصين المسلمين على أنها وجود حقيقي
مطلق، وهو مبدأ بلا ابتداء غير متصف يتجلى بمراتب مختلفة.
فالمرتبة الأولى
لتجليه هي مرتبة الذات حيث اندرجت فيها الشؤون الإلهية والكونية والأزلية
والأبدية، ولاندراج جميع تلك الشؤون فيها كانت صفاته غير متعينة وغير متمايزة
فيها. وأما المرتبة الثانية للتجلي فهي ذات تظهر فيها صفة كلية يكمن فيها العلم
والقدرة من دون تمايز الصفات. وأما المرتبة الثالثة للتجلي فهي ذات تتمايز فيها
صفات وتصدر أفعال ابتداء في علمه تعالى. وهي بالإجمال العلم والقدرة وبالتفصيل
الحياة والتكوين والإرادة والسمع والبصر والكلام وكل ما يتعلق بالتدبير والترتيب،
وفي هذه المرتبة تتمايز فيها الذات والصفات وهي «خزانة الجود» تضم كل الكائنات.
وأما المرتبة الرابعة من التجلي فهي مرتبة الأمر، ولها مرتبتان للوجود، فالأولى في
علم الله تعالى والثانية في الوجود العيني. وهي ابتداء تجلي الله تعالى في الوجود
العيني فليس هو من الذات ولا من الصفات ولا من الأفعال وقد أودع الله فيها جميع ما
في صفاته تعالى.
وقد عرض علماء المسلمين
في الصين نظريتهم في الكون لإثبات وجود الله تعالى ووحدانيته على طريقة الفلسفة
الصينية فيها، واستعملوا مصطلحاتها، ولكن لم يقبلوا نظريتها في الكون كالحقيقة
الثابتة، بل صححوها وطوروها، ومن خلال التصحيح والتطوير حاولوا التوفيق بين
الإسلام والفلسفة الصينية بتقريب الإسلام إلى فهمهم في لباس جديد. فنقطة البدء
للكون في الفلسفة الصينية هي النهاية الكبرى، ولكونه لا صوت له ولا صورة وصف
باللانهائي، وهي أعلى المراتب في الوجود، أي الوجود المطلق، يعني الإله، وهو حقيقة
جامعة لحقائق السماء والأرض وغيرهما من الكائنات، وهو أزلي وأبدي، ويكمن فيه العقل
(الحقيقة) وهو «داو» الميتافيزيقي، أصل الكائنات والنفس(الهواء) وهي الأداة
الفيزيقية، أداة الكائنات.
وإذا جئنا إلى علماء
المسلمين نجدهم قد طوروا هذه الفكرة، وقالوا بأن النهاية الكبرى نقطة البدء للكون
على وجه من الوجوه، ولكنها ليست بالمبدأ الحقيقي للكون. والمبدأ الحقيقي هو الله
تعالى، فليست النهاية الكبرى إلا الروح الإضافية (القلم والعقل الأول) من حيث
الوجود العيني، وليس اللانهائي إلا هي من حيث الوجود العلمي (في علم الله تعالى)،
وهما شيء واحد، مختلف من حيث اعتبار الوجود، وهو ليس خالقًا بل مخلوقًا لله تعالى،
والله تعالى هو الخالق ومبدأ الكون.
وفي الفلسفة الصينية
الإنسان هو خلاصة الكائنات، ورأسه يمثل السماء ورجله يمثل الأرض، وعلى هذه فهو
أفضل الكائنات. وعند علماء الصين المسلمين الإنسان هو المقصود من الخلق، وهو أول
الموجودات باعتبار روحه، وآخر الموجودات باعتبار جسده كثمرة الخلق، وعلى ذلك فهو
أفضل الكائنات. فكون الإنسان خلاصة الكائنات وأفضلها متفق عليه في كلتا الفلسفتين،
وإن اختلفتا في وصف ميزاته.
وختامًا فخلاصة القول
أن علماء الماتريدية الصينيين كان لهم جهود ملموسة منذ نشأة الفكر الإنساني
الإسلامي في الصين في محاولات شتى لتقريب الفكر الإسلامي للأذهان ودحض التصورات
الخاطئة عن المعرفة والخلق والكون، وقد بدا ذلك واضحًا في مؤلفاتهم وآثارهم التي
عرضناها في المقال.
(هذه الورقة هي من الإنتاجات المرحلية لمشروع التمويل
الذاتي للشباب بتخطيط وزارة التربية والتعليم الصينية “أفكار الماتريدية الكلامية
وانتشارها وتأثيرها على طول طريق الحرير (15YJA730002)، مدعما من مركز دراسات غربي آسيا
وشرقي أفريقيا المتابع لجنة الدولة الصينية لشؤون القوميات بمقر جامعة
القوميات بشمال غربي الصين).
الهوامش:
(1) أبو منصور
الماتريدي؛ حياته وآراؤه العقدية، بلقاسم الغالي، دار التركي للنشر، تونس، 1989م،
ص 39-40.
(2) انظر: الإسلام
والثقافة الإسلامية بتحرير محمد يَانغ هُوَاي جُونغ وعلي يُوي تِشن قُوي، دار
الطباعة الشعبية نيشيا، الصين، الطبعة الأولى، 1995م، ص48.
(3) حيث أسند إمبراطور
الصين إلى بعضهم الإشراف على الدار الفلكية الإمبراطورية.
(4) المقصود بها
الإسلام والكنفوشيوسية والداوية والبوذية.
(5) اسمه محمد
عبدالله إلياس hu dengzhou،
ولد سنة 1522م، درس الكتب الكونفوشيوسية في صغره، ثم درس اللغتين العربية
والفارسية والكتب الإسلامية، حتى أصبح ما هرًا في الفلسفة الإسلامية والفقه على
مذهب الحنفية، وابتكر أسلوب دين تان يوى للتعليم الديني، وتوفي سنة 1597م. انظر:
الموسوعة الإسلامية الصينية، ص223، الطبعة الأولى 1994م، مطبعة المعاجم والكتب بـ Si Chuan، مدينة Chengdu.
(6) انظر: الإسلام والثقافة
الصينية، ص 340 وما بعدها.
(7) انظر: يُوِي جِين
قُوِي وتِيَي دَا دِيُون، الجامع على مؤلفات وَان دَي يُوي الثلاثة ترجمة
وتعليقًا، دار الطباعة الشعبية بنينغشيا، الطبعة الأولى، 1999م، ص558 وما بعدها.
(8) ولد سنة 1876م
بمدينة لينسيا في مقاطعة قانسو، وكان من قادة الجيوش الحكومية، ثم عمل رئيسًا على
مدينة تين داو، ثم زعيمًا على مقاطعة نَان خُوِى، وكذا كانت له وظائف أخرى، وكان
يحب نشر الثقافة الإسلامية، واهتم بطباعة الكتب الإسلامية ككتب الشيوخ الأربعة
المشهورين وغيرها، وتوفي سنة 1932م.انظر: الموسوعة الإسلامية الصينية، دار الطباعة
للمعاجم والكتب سى تشوان، الطبعة الأولى، 1994م، ص329.
(9) انظر: الإسلام
والثقافة الإسلامية، ص392. والموسوعة الإسلامية الصينية، ص580، ويوى جين قوى وتيى
دا ديون،الجامع لمؤلفات وَان دَي يُوي الثلاثة ترجمة وتعليقًا، ص558 وما بعدها.
(10) انظر: يوسف مَا
جُو ، الهداية الإسلامية، دار الطباعة الشعبية نينشيا، الطبعة الأولى، 1988م، ص20
وما بعدها،والإسلام والثقافة الإسلامية، ص405 وما بعدها. والموسوعة الإسلامية
الصينية، ص352، وجهود علماء الصين المسلمين في مقارنة الأديان، لزهرة الدين،
رسالته لنيل درجة الماجستير، كلية أصول الدين، الجامعة الإسلامية العالمية إسلام
آباد، 1996م، ص52.
(11) هذا الكتاب شرحه
الشيخ ما لين يون باللغة العربية بعد ترجمة نصه إلى اللغة العربية، وسمى شرحه بشرح
اللطائف.
(12) انظر: يوسف مَا
جُو، الهداية الإسلامية، ص1 وما بعدها. والإسلام والثقافة الإسلامية، ص405.
والموسوعة الإسلامية الصينية، ص352.
(13) انظر: الإسلام
والثقافة الإسلامية، ص412، والموسوعة الإسلامية الصينية، ص327.
*****
ملاحطة:
(ولد أبو منصور محمد بن محمد الماتريدي، عام 870م
بالقرب من سمرقند، وتوفي في سمرقند عام 944م. وهو مفكر إسلامي ومؤسس ورائد مدرسة الماتريدي
في الكلام. ولد أبو منصور الماتريدي بمدينة ماتريد بالقرب من سمرقند. ودرس
الفقه الحنفي وغيره من العلوم الدينية في سمرقند.)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق