تحت عنوان " أوروبا ظلت تدرس “القانون” حتى
القرن الـ 19، معالج أمراض وجراح العالم بالطب العربي والإسلامي" نشرت
جريدة الخليج يوم 7/3/2015 دراسة أعدها: محمد إسماعيل زاهر، وجاء فيها:
يفتتح الكاتب الفرنسي جيلبرت
سينويه روايته "ابن سينا . . أو الطريق إلى أصفهان" على لسان
الجوزجاني، أبرز تلاميذ الشيخ الرئيس، بفقرة لافتة ومعبرة في الوقت نفسه
يقول فيها: "أما بعد فهذا أنا العبد الفقير إلى ربه تعالى أبو عبيد
الجوزجاني، أضع بين يديك هذه الكلمات التي عهد بها إلى ذلك الذي ما انفك معلمي
وصاحبي وقرة عيني طيلة خمسة وعشرين عاماً، أبو علي بن سينا، أفيسين عند
الفرنجة، أمير الأطباء الذي أبهرت حكمته ومعرفته الجميع، خلفاء ووزراء وأمراء
وشحاذين وقادة حرب وشعراء، لم يزل اسمه ملفوظاً وذكره محفوظاً من سمرقند إلى شيراز،
ومن أبواب المدينة المدورة، بغداد، إلى أبواب الاثنتين وسبعين أمة، ومن فخامة
القصور إلى ضواحي طبرستان الوضيعة، ولم يزل الصدى يترسل بأخبار عظمته في أرجاء
المعمورة".
تلخص فقرة سينويه جزءاً مهماً
مما يمكن أن يقابله قارىء سيرة ابن سينا ووعي الآخرين بتلك الشخصية التي
ملأت الدنيا وشغلت الناس، فهو الشيخ الرئيس في المصادر العربية وأمير الأطباء (Avicenna) بالنسبة للغربيين، حفظ القرآن الكريم ولم يبلغ العاشرة
من عمره، وفرغ من دراسة الطب ولم يتجاوز السادسة عشرة، يُعرف دائماً بالفيلسوف
الطبيب، ولكن له إسهامات أخرى في الكيمياء والبصريات، وفي الصوتيات وعلم النفس
واللغة والفلك والنبات والموسيقى . . . إلخ، ظل كتابه "القانون في الطب"
يُدرس في جامعات أوروبا، وبالأخص في فرنسا وإيطاليا، حتى نهاية القرن السادس عشر
أو منتصف القرن السابع عشر، وفي جامعة مونبلييه حتى أوائل القرن التاسع عشر، أي أن
طرائقه وأساليبه في العلاج استمرت ما يقرب من ثمانية قرون مرجعاً أساسياً في
جامعات أوروبا، وصف بعض الدارسين الغربيين "القانون" بـ"إنجيل
العلوم الطبية"، في أعقاب تعلمه فنون صنعة الطب مارسه مجاناً، وذلك بعد أن
ذاعت شهرته في علاج سلطان بخارى نوح بن منصور، الذي أخطأ مشاهير الأطباء في
مداواته ولم يكن الشيخ الرئيس قد تجاوز السابعة عشرة .
تأثير عابر
للزمان والمكان
ابن سينا
تتلخص مفاتيح شخصية ابن سينا في ما يمكن وصفه
بامتداد التأثير الفكري الشامل للرجل فلسفياً وعلمياً، امتداد في الزمان والمكان،
وشمولية المعرفة وما يمكن أن تثيره رؤاه من نقاش وجدل، هو شخصية مغرية بالنسبة
للروائي في محنته التي تعرض لها، وليس للباحث أو الدارس وحسب، وشخصية ملهمة
للأجيال الجديدة في الدأب على التحصيل، ودرس للمفكر الذي يفني عمره في الفلسفة
والاجتماع . . إلخ، ولا يعرف أبسط القواعد العلمية، وللطبيب أو الصيدلي . . إلخ،
المنهمك في تعقيدات العلوم التطبيقية والتقنية ولا يتذوق الأدب أو الشعر، لابن
سينا الكثير من الأشعار المجموعة في ديوان، ولم تؤثر قصته "حي بن
يقظان" في ابن طفيل والسهروردي وابن النفيس وحسب،
ولكن أيضاً في دانييل ديفو عندما ابتكر "روبنسون كروزو"
تلك التي يعتبرها بعضهم فاتحة الرواية الإنجليزية الحديثة، وفي كل من طرح أسئلة
حائرة ومتأملة في الأدب في مابعد .
هي وحدة المعرفة الغائبة عنا وربما في العالم بأكمله
الآن، ابن سينا درس في استيعاب علوم الآخرين "اليونان" والإضافة
إليها، فالعلم ليس مداراً مغلقاً يُدرس ويُردد كالببغاوات، تعلم ابن سينا
وأضاف إلى أساتذته وبروح ثقافية مختلفة، كانت العمليات الجراحية تجرى في أوروبا
أواخر العصور المظلمة وبدايات عصر النهضة علناً أمام الجمهور وفي بعض البلدان في
المسارح وهي تصور الآن، ولا يمكن أن يحدث هذا في الثقافة الإسلامية، فللجسد حرمته،
ولا يمكن التعامل معه كمادة استعمالية وظيفية بتعبيرات الراحل عبد الوهاب
المسيري .
لابن سينا تواجد موزون في القراءات العربية
المعاصرة لتراثنا الفلسفي، الأمر الذي يثير عدة ملاحظات تتعلق بإسهام الرجل
العلمي، أو بتراثنا العلمي على وجه الدقة، ولن تجد دراسة واحدة في الفلسفة العربية
الإسلامية لا تشير إلى ابن سينا . . فيلسوف الإلهيات والمنطق . . إلخ، وهي
قراءات مؤدلجة في معظمها، تخضع لاتجاه المفكر، فهو رائد الفلسفة الهرمسية المشرقية
الباطنية، ومن المؤسسين للعرفان في الثقافة الإسلامية المناقض للنظرة العقلانية
والعلمية، عند محمد عابد الجابري في مشروعه لنقد العقل العربي، وكذلك حسن
حنفي . . إلخ، وهو أكثر أصالة فلسفية وعقلانية من ابن رشد لدى يوسف
زيدان، ويلاحظ أن الجدل حول عقلانية الرجل تهدر سياقات زمنه، وتخوض المعارك في
الماضي بقوانين الراهن والآخر، ولا تتطرق إلى ذلك الطبيب الذي علم الدنيا، وعندما
تتغاضى هذه الرؤى عن إسهام الرجل العلمي، فكأنها تقصر العلم التطبيقي على الآخر
والمسكوت عنه في خطابها يقول لا حيلة لنا في العلوم التطبيقية، ولا يمكن لنا إلا
استيرادها من الآخرين أو تعلمها منهم، هي معركة الحداثة في الثقافة العربية، كما
دارت وتدور وقائعها وفصولها، وحيث لا نستطيع الخروج منها حتى الآن .
يعجز الباحث عن الإحاطة بمصادر سيرة الشيخ الرئيس
والمؤلفات التي دارت حوله، يذكر بعضها الدكتور يوسف زيدان في بداية قراءته
لقصة "حي بن يقظان"، حيث نجد الشيخ الرئيس في "تاريخ
الحكماء" للقفطي، "تاريخ حكماء المسلمين" للبيهقي،
"المختصر في أخبار البشر" لأبي الفداء، "الكامل
في التاريخ" لابن الأثير، "وفيات الأعيان" لابن
خلكان، "النجوم الزاهرة" لابن تغري بردي، "البداية
والنهاية" لابن كثير، "سير أعلام النبلاء" للذهبي
. . إلخ، كتب عنه من المعاصرين العقاد تحت عنوان "الشيخ الرئيس ابن
سينا"، وقدم الأب جورج قنواتي دراسة في مؤلفاته . . إلخ، يقول زيدان:
"أما المقالات المفردة، والبحوث الممهدة للنشرات المحققة من مؤلفات ابن
سينا، فهي لا تكاد تقع تحت الحصر"، هذا فضلاً عن المصادر الغربية، ما دفع
أبرز مؤرخي العلوم في القرن العشرين الشهير جورج سارتون ليقول عنه:
"ابن سينا أعظم علماء الإسلام ومن أشهر العلماء في العالم".
سيرة ملهمة
ولد أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا في عام
370 هجرية (980م) في مدينة بلخ بالقرب من بخارى، في أوزبكستان الحالية، وتوفي في
عام 427 هجرية (1037م) في مدينة همدان، في إيران، حياته امتدت بين نهاية القرن
الرابع وبدايات القرن الخامس الهجريين، حيث وصلت الحضارة الإسلامية إلى أوج
ازدهارها الفكري في أعقاب عصر التدوين والترجمة، وعاش في عصر فتن واضطرابات ودسائس
لم يسلم منها، وأيضاً في فترة العصور الوسطى الأوروبية المظلمة، حيث كان الطب على
وجه الخصوص يقوم على الشعوذة .
يقول عن نفسه: "وأكملت العشر من العمر وقد أتيت على
القرآن وعلى كثير من الأدب"، وأحاط بالعديد من مسائل الدين والشريعة وعلم
النجوم، كتب تلميذه الجوزجاني على لسانه الكثير من المعلومات التي تظهر تلك
الشخصية الفريدة والخلابة، ولذلك سننقلها هنا بضمير المتكلم، ابن سينا
نفسه، كما وردت نقلاً عن التلميذ في عدة مصادر، وسيتضح من سرد أمير الأطباء أن كل
العلوم التي تعلمها ويحكي عنها كانت أثناء مراهقته، أو في العقد الثاني من العمر .
* بدايات
القراءة: "أخذت أقرأ الكتب على نفسي، وأطالع الشروح، حتى أحكمت علم المنطق
وكذلك كتاب أقليدس - في أصول الهندسة -، ثم انتقلت إلى المجسطي -
كتاب شهير لبطليموس في الفلك-، لقد اشتغلت بتحصيل العلوم من النصوص
والشروح، من الطبيعي -العلمي- والإلهي - الفلسفة- حتى صارت أبواب العلم تنفتح علي".
* الدخول إلى
عالم الطب: "ثم رغبت في علم الطب، وصرت أقرأ الكتب المصنفة فيه، وعلم الطب
ليس من العلوم الصعبة، فلا جرم أني برزت فيه في أقل مدة، حتى بدأ فضلاء الطب
يقرؤون علي علم الطب، وتعهدت المرضى، فانفتح علي من أبواب المعالجات المقتبسة من
التجربة ما لا يوصف، وأنا مع ذلك أختلف إلى الفقه وأناظر فيه . . وأنا في ذلك الوقت
من أبناء ست عشرة سنة".
* يقرأ كتاباً لأرسطو
40 مرة: "وقرأت كتاب ما بعد الطبيعة -لأرسطو- فما كنت أفهم فيه شيئاً،
والتبس علي غرض واضعه حتى أعدت قراءته أربعين مرة، وصار لي محفوظاً، وأنا مع ذلك
لا أفهمه ولا المقصود منه وآيست من نفسي وقلت هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه"
ولكنه يشتري كتاباً للفارابي ذات يوم بثلاثة دراهم يشرح فيه الفارابي
ما بعد طبيعة أرسطو، فتنفتح أمامه مغاليق الفلسفة ليتصدق في اليوم الثاني
على الفقراء "شكراً لله تعالى".
* وعندما يعالج
سلطان بخارى بعد أن احتار مشاهير الأطباء في مرضه، يطلب منه دخول ما يطلق عليه
"دار كتبهم": "فدخلت داراً ذات بيوت كثيرة، وفي كل بيت
صناديق منضدة بعضها على بعض، في بيت منها كتب العربية والشعر، وفي آخر الفقه،
وكذلك في كل بيت كتب علم مفرد، ورأيت من الكتب ما لم يقع اسمه على كثير من الناس،
فقرأت تلك الكتب وظفرت بفوائدها، وعرفت مرتبة كل رجل في علمه . . فلما بلغت ثماني
عشرة سنة من عمري، فرغت من هذه العلوم كلها".
وفي أعقاب احتراق تلك المكتبة وتوجيه أصابع الاتهام إليه
سيرحل عن بخارى إلى الري وهمذان، وفي تلك الأخيرة أسند إليه منصب شبيه برئيس
الوزراء، ثم خدم الأمير علاء الدين في أصفهان، وكان يتعرض للدسائس، الأمر
الذي عرضه للسجن الذي خرج منه بسبب عبقريته الطبية، حيث لجأ إليه الأمراء دائماً
في الحالات المستعصية، وكان أشهر أطباء عصره ولم يتجاوز الثانية والعشرين، ولم
تشغله مناصبه أو علاجه للناس أو الحكام عن دراسته أو مؤلفاته، والتي تخطت المئتي
كتاب، فكان يكتب خمسين صفحة كل ليلة، حتى إنه عندما تفرغ لمؤلفه "الشفاء"
كتبه في عشرين يوماً، مع ملاحظة أن الكتاب يقع في ثمانية عشر مجلداً، ويعد ثاني
أشهر كتبه بعد "القانون"، ويعتبره بعضهم دائرة معارف قائمة
بذاتها، حيث تناول فيه مسائل مختلفة في الرياضيات والطبيعة والمنطق وما وراء
الطبيعة، وترجم الكتاب في روما عام 1926 إلى الإيطالية والألمانية .
منهج التجربة
لا النظر
اعتمد ابن سينا في منهجه العلمي على التجربة ولم
يكتف بالنظر، وآمن بأن الفيلسوف يخطئ مثل الآخرين، ومن هذه الرؤية يرجع إليه الفضل
في خدمات كثيرة قدمها في عدة علوم ويضعه بعضهم في مصاف أعلامها مثل: البيروني
وجابر بن حيان وابن الهيثم على اختلاف توجهاتهم العلمية والحقول
التي اشتهروا بها، وله اجتهادات في مسائل الزمان والمكان والحرارة والنور والصوت
وقوانين الحركة والمعادن ووزنها النوعي وقوانين الإبصار، وله دراسة جيدة حول
الموسيقى في كتاب "الشفاء"، وقاده نبوغه في الطب إلى العقاقير
والأدوية فكان معنياً بالكيمياء وطرائق التقطير والترشيح والتشميع . . إلخ .
كتب ابن سينا الكثير من المؤلفات الطبية، منها:
"الأدوية الطبية"، "دفع المضار الكلية عن الأبدان الإنسانية"،
"القولنج"، "رسالة في سياسة البدن"، "رسالة
في تشريح الأعضاء"، "رسالة في الأغذية والأدوية"،
"أرجوزة في التشريح"، "أرجوزة المجربات في الطب"،
فضلاً عن كتابه الأشهر "القانون في الطب" والذي يقع في أربعة عشر
مجلداً .
القانون في
الطب
ويرجع الفضل لابن سينا في اكتشاف العديد من
الأمراض، ويعتبر أول من تحدث عن "الإنكلستوما" وسماها في كتابه
"القانون في الطب" بالديدان المعوية ووصفها بالتفصيل، وتحدث عن
ديدان "الفلاريا" المسببة لمرض الفيل، ووصف الالتهاب السحائي،
والسكتة الدماغية الناتجة عن زيادة الدم، وفرّق بين المغص المعوي والكلوي، وأدخل
مسباراً معقماً إلى القناة الدمعية لعلاج العين، وأوصى بتغليف الحبوب قبل تناولها،
وتحدث عن الأورام الليفية، كما شخص طرائق انتقال العدوى لبعض الأمراض المعدية مثل
الجدري والحصبة . . إلخ والتي كانت تثير الذعر في زمنه، وذكر أنها تنتقل عن طريق
بعض الكائنات الحية الدقيقة في الماء والهواء، وقال: "إن الماء يحتوي على
حيوانات صغيرة جداً لا تُرى بالعين المجردة، هي التي تسبب بعض الأمراض"، وذلك
قبل اختراع المجهر في القرن الثامن عشر .
وأظهر أمير الأطباء براعة فائقة في الجراحة، فقد تكلم عن
طرائق إيقاف النزيف، وحذر المعالجين من إصابة الشرايين والأعصاب عند التعامل مع
الجروح، ودعا إلى ضرورة أن يكون الطبيب على معرفة تامة بالتشريح، وبإمكاننا أن
ننبهر ونحن نقرأ له ما فصل فيه حول العظام والنبض: المستوي والمختلف والمركب، وفي
تشريح الرأس وحديثه عن المخ: تركيبه ووظائفه وشكله من الداخل .
هو درس ابن سينا المتعدد المستويات والآفاق،
بإمكان الشباب استحضاره وهو يتحدث عن تلك الليالي التي لم ينم فيها انكباباً على
القراءة والتحصيل، حتى أحاط بالعلوم نظرياً، وظل طوال حياته والتي استمرت لأكثر من
نصف قرن بقليل منخرطاً في التجربة العلمية، وبإمكان من يهوى المقارنة أن يراجع أي
كتاب عن الطب في أوروبا في تلك الفترة، ليدرك أن طرائق العلاج وأوضاع المستشفيات
ونظرة الناس، وحتى الكتّاب والمثقفين إلى الطب هناك كانت تعتمد على السحر
والشعوذة، وفي أحسن الأحوال أساليب العلاج الشعبية أو الرؤى النظرية للجسد وعلله
غير الفعالة في العلاج، وبإمكان مقارنة أخرى أن تسأل بأسى: أين نحن من أمير
الأطباء؟ وماذا نصدر الآن للآخرين؟ وكيف نتلمس مع ذلك الفرنسي المفتون جيلبرت
سينويه الطريق إلى الشيخ الرئيس أو إلى أصفهان أو الشرق أو الحضارة العربية
الإسلامية؟ عاش ابن سينا في زمن محن وتفتت، ومع ذلك أبدع وأنتج ووصل ذكره
إلى "أبواب الاثنتين وسبعين أمة"، هو وضع شبيه بما نعانيه الآن، ولكن
المحصلة النهائية تختلف بين الأمس والراهن .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق