بين يدي
الإمام محمد بن إسماعيل البخاري. كتبها: عبد العزيز قاسم، اعلامي وكاتب صحفي سعودي.
بين يدي الإمام محمد بن إسماعيل البخاري. كتبها: عبد العزيز قاسم. بتاريخ 2014-06-30
"بخارى منجم
المعرفة" جلال الدين الرومي.
ردد على مسمعي دليلي السياحي – بكل تباه وفخر-
وأنا على بوابة مدينة بخارى القديمة: "هذا السور الذي تطالعه الآن عمره أكثر
من 2500 عام، والبوابة التي ولجت منها التو؛ دخل عبرها الإسكندر المقدوني وقتيبة
بن مسلم الباهلي وجنكيز خان وهولاكو وتيمورلنك، وبقية عظماء وقادة خلدوا أسماءهم
في التاريخ. هنا ولد محمد بن إسماعيل البخاري إمام الحديث، وهنا ولد الشيخ الرئيس
أبو علي ابن سينا، وستجد أمامك قبر الإمام النقشبندي. هنا – مشيرا بإصبعه - درس
حينا من الدهر وتعلم: الخوارزمي والبيروني وأولغ بيك العالم الفلكي، وبقية علماء
نهلوا من العلم إبان الطلب، هذه المدينة التي تدخلها موطن المعرفة القديم في
العالم".
الحق أن مدينة بخارى تختلف نوعا ما عن باقي
مدن أوزبكستان، فأهلها يتحدثون الفارسية، ووجوههم أكثر جمالا ونضارة، وأنى اتجهت
تجد العظمة والتراث العربي حاضرا عبر الثقافة الإسلامية التي كانت عليها المدينة،
فأكثر من أربعين مدرسة لا تزال آثارها موجودة، وحسنا فعلت الحكومة بالاهتمام بها،
وإعادة ترميمها بعد أن شهدت في الحقبة السوفيتية إهمالا متعمدا.
لا تملك إلا أن تتوجع وتزفر آهة عميقة، تودع
فيها غصصك الحرى التي تنتاب دواخلك رغما؛ وأنت تقرأ الكتابات العربية من آيات
القرآن الكريم والأحاديث الشريفة وأبيات الشعر التي تزين الجدران والأعمدة في تلك
الشواهد الباقية بالمدينة. كان الصناع يتفننون حتى في أبواب البيوت، التي يقوم
بنحتها صناع مهرة، يبدعون بشكل عجيب في نحت البوابة، وتضمينها الكتابات العربية،
والرسوم البديعة. دعك من الفسيفساء الخلابة التي تزين جدران تلك المدارس أو
المساجد أو الأضرحة، وأنا الذي ظننت أنها شكل جمالي واحد، بيد أن كل زاوية لها
رؤية وفكرة مبدعة، يتفنن فيها أهل تلك الحرفة، لتجد نفسك أنك أمام لوحة فنية أخاذة
أو مقطوعة موسيقية فنية، ولا تقف فقط على بوابة أو جدار.
من أعجب ما رأيت هناك في مدينة بخارى مقبرة
لليهود، وعلى قبتها النجمة السداسية، حيث وفد هؤلاء إبان الحقبة الرومانية هربا،
وبقوا آمنين في العصر الإسلامي وما بعده ولم يمسوا، ورحل معظمهم في بداية
التسعينيات إلى الكيان الصهيوني أو الولايات المتحدة.
عندما
عدت لأبحث ما كتبه الرحالة عنها، ألفيت أن ياقوت الحموي في الجزء الأول من معجم
البلدان قال فيها: "بُخَارى: هي أعظم مُدُن ما وراء النهر وأجلها، يُعبَر
إليها من آمُل الشّطّ، وبينها وبين نهر جيحون يومان من هذا الوجه، وكانت قاعدة ملك
الإمارة السامانية".
وقال
بطليموس في كتاب الملحمة: "طول بخارى سبع وثمانون درجة، وعرضها إحدى وأربعون
درجة، وهي في الإقليم الخامس، وطالعها الأسد تحت عشر درجات منه لها قلب الأسد كامل
تحت إحدى وعشرين درجة من السرطان، ويقابلها مثلها من الجدي، وبيت ملكها مثلها من
الحمل، وبيت العاقبة مثلها من الميزان، ولها شركة في العيُّوق ثلاث درجات، ولها في
الدُّب الأكبر سبع درجات".
بالنسبة
لنا كمسلمين، تلك المدينة تعني لنا كثيرا، فهي موطن محمد بن إسماعيل البخاري إمام
الحديث، وأصررت على زيارته، والكثيرون يظنون –بما ظننت- أن الرجل مدفون في مدينته
بخارى، والحقيقة أنه دفن بقرية تبعد عن سمرقند بـ50 كيلا، والسبب أن الإمام
البخاري كان شريف النفس، فقد بعث إليه والي بخارى ليأتيه حتى يسمع أولاده عليه،
فأرسل إليه في بيته: "العلم والحلم يؤتى"، ورفض أن يبتذل علمه، فقام
والي بخارى بطرده من المدينة، بعد أن تآلب عليه ثلة من أعدائه، فخرج البخاري وهو
يدعو عليه، فلم يمض شهر حتى أمر ابن الظاهر بأن ينادى على ذلك الوالي على أتان،
وزال ملكه وسجن في بغداد حتى مات.
استحضرت
هذه الحادثة وأنا أقف على قبر إمام الحديث الأول، وتمتمت: "أي علماء كان
هؤلاء، وكيف صانوا علمهم وعرفوا قدره، ولم يبتذلوه على أبواب الولاة والسلاطين،
فلا غرو ولا عجب أن يستجيب الله دعاءهم".
أتيت
قبر الإمام البخاري قبل عشرين عاما، وكان مهملا جدا، والطريق إليه غير معبد، بيد
أن الحكومة الأوزبكية الحالية اهتمت به، وعرفت قيمة هذا العالم، وأقامت ضريحا فخما
– بالتأكيد مخالف للعقيدة الإسلامية - ولكنهم من وحي رؤيتهم للإسلام، فضلا عن
الحسّ القومي لديهم، ويظنون أنهم يكرمونه بهذا الشكل.
في
كتب التأريخ لدينا قصة مدهشة عن هذا العالم، فقد قال أبو أحمد عبدالله بن عدي
الحافظ: سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد، فسمع به أصحاب
الحديث، فاجتمعوا، وعمدوا إلى مئة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا
لإسناد هذا، وإسناد هذا لمتن هذا، ودفعوا إلى كل واحدٍ عشرة أحاديث ليلقوها على
البخاري في المجلس. فاجتمع الناس، وانتدب أحدهم، فسأل البخاري عن حديثٍ من عشرته،
فقال: لا أعرفه، وسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه، وكذلك حتى فرغ من عشرته، فكان
الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون الرجل فهم، ومن كان لا يدري قضى على البخاري
بالعجز.
ثم
انتدب آخر ففعل كما فعل الأول والبخاري يقول لا أعرفه، ثم الثالث وإلى تمام
العشرة، فلما علم أنهم قد فرغوا؛ التفت إلى الأول منهم فقال: أما حديثك الأول فكذا
والثاني كذا والثالث كذا إلى العشرة، فرد كل متن إلى إسناده، وفعل بالآخرين مثل
ذلك، فأقرّ له الناس بالحفظ. فكان ابن صاعد إذا ذكره يقول: الكبش النطّاح".
عندما
نسمع مثل هذه القصص، لا يصدقها الكثيرون، ويعتبرونها مبالغة، ولكن من جلس للشيخ
الموريتاني محمد الحسن الددو مثلي, وسمع منه حكايات أغرب من هذه عن إخوتنا في
موريتانيا من طلبة العلم في العصر الحاضر؛ ليؤمن فورا بوثوقية هذه الروايات، بسبب
قوة الحافظة التي يؤتيها الله تعالى من يصطفي من عباده.
بلاد
بخارى بحقّ عاصمة المعرفة، ومنجم العلماء، وأي مسلم إن أتاها وجد عبق أجداده هناك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق